باماكو – شهد إقليم الساحل الإفريقي واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في العالم المعاصر، حيث يتداخل الانهيار الاجتماعي مع الانقسام الإثني والاضطراب السياسي ليشكّل تربة خصبة لتنامي الحركات المتطرفة.
ويجد الشباب في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهم ضحايا الفقر والعزلة وتفكك البنى التقليدية، أنفسهم في فراغ هويّاتي عميق، يدفعهم نحو الانخراط في جماعات جهادية تقدّم لهم ما فقدوه في مجتمعاتهم: الانتماء، المعنى، والإحساس بالكرامة.
ويرى الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة كريس مينساه-أنكراه في تقرير نشرته مؤسسة جيمس تاون أن الظاهرة ليست وليدة فكر متطرف فحسب، بل نتاج أزمة نفسية واجتماعية ممتدة.
و لم تعد التفسيرات الاقتصادية والسياسية كافية لتوضيح أسباب انضمام الآلاف من الشباب إلى التنظيمات المسلحة. فالباحثون يشيرون إلى مسار نفسي واضح يبدأ بفقدان الإحساس بالذات، ثم الانعزال عن الجماعة، لينتهي بالاحتماء بجماعات تقدم بديلًا عن الأسرة والمجتمع.
المطلوب ليس فقط تسليح الجيوش، بل ترميم الروابط الاجتماعية عبر التعليم، ودعم الزعامات المحلية، وتمكين الشباب من المشاركة في إدارة مجتمعاتهم.
وهنا تتحول الجماعة المسلحة إلى “أسرة بديلة” توفر دفئًا زائفًا، وتُعيد تعريف مفاهيم الشرف والولاء، فتمنح هؤلاء الشباب هوية جديدة قائمة على الطاعة والانتقام.
وتتجلى المعضلة بوضوح في مجتمعات الرعاة كالطوارق والفولاني، الذين يعيشون على أطراف الدول ويعتمدون على أنماط عيش رعوية تقليدية.
ومع تغيّر المناخ وتزايد التصحر، تحولت حياة الرعي إلى صراع من أجل البقاء، حيث تتناقص المراعي والمياه وتشتد النزاعات مع المجتمعات الزراعية المستقرة.
ومع كل دورة من العنف، يتفتت النسيج الاجتماعي أكثر، وتتراجع سلطة الشيوخ والوجهاء لصالح الميليشيات التي تقدم نفسها كحامية للكرامة والعشيرة.
وهكذا يصبح الانخراط في القتال فعلًا دفاعيًا في نظر الشباب، قبل أن يتطور إلى قناعة أيديولوجية. لكن المأساة لا تقتصر على المناطق الريفية. فمدن الساحل التي تمتلئ بالعاطلين والمهاجرين والنازحين تشهد بدورها حالة من التفكك الاجتماعي الحاد.
وفي أحياء فقيرة مكتظة كضواحي باماكو ونيامي وواغادوغو، يعيش جيل كامل بلا فرص تعليم أو عمل، مع شعور متزايد بالتهميش من الدولة والمجتمع.
ومع انهيار مؤسسات الرعاية وضعف الخدمات، تظهر الجماعات المتطرفة كمنظومة بديلة توفر النظام والانتماء، ولو بثمن العنف. هكذا ينجذب شباب المدن إلى “الجهاد” بحثًا عن هوية تمنحهم مكانة وسط عالم فوضوي.
وتفسّر النظريات النفسية هذا الانجذاب من خلال ما يسمى “بأزمة الهوية”، وهي المرحلة التي يعيش فيها الشاب صراعًا بين الحاجة إلى الانتماء والرغبة في الاستقلال.
وفي مجتمعات الساحل، حيث تُفرض الطاعة للأعراف والسلطة الأبوية منذ الطفولة، لا يتاح مجال للاكتشاف الذاتي أو التفكير المستقل.
وعندما تنهار هذه السلطات التقليدية بفعل النزوح والحروب، يجد الشاب نفسه في فراغ وجودي عميق، يبحث فيه عن بديل سلطوي جديد. هنا يتسلل دعاة التطرف ليقدّموا أنفسهم كقادة روحيين يعيدون النظام المفقود ويمنحون الحياة معنى “جهاديًا” يتجاوز الفوضى المحيطة.
وتستثمر التنظيمات المسلحة كجماعة نصرة الإسلام والمسلمين أو “داعش الصحراء الكبرى” هذه الثغرات النفسية والاجتماعية ببراعة. فهي لا تعتمد فقط على الخطاب الديني، بل تبني “شبكات أخوّة” داخل معسكراتها، حيث يعيش المقاتلون كعائلة متماسكة، يتشاركون الطعام والمهام والخوف والأمل.
وفي تلك البيئة المغلقة، تتحول العلاقات إلى ما يسميه الخبراء “الأخوّة الزائفة”، إذ يصبح الولاء للجماعة بديلاً عن الأسرة، والطاعة للقائد بديلاً عن الأب، والانتماء إلى المعسكر بديلاً عن الوطن. هكذا يتم بناء منظومة ولاء عاطفي تجعل الانفصال عن الجماعة أمرًا شبه مستحيل.
في أحياء فقيرة مكتظة كضواحي باماكو ونيامي وواغادوغو، يعيش جيل كامل بلا فرص تعليم أو عمل، مع شعور متزايد بالتهميش من الدولة والمجتمع
ومع طول أمد الصراع، باتت هذه الظاهرة أكثر تعقيدًا. فالمجند الجديد في التنظيم ليس بالضرورة متدينًا متشددًا، بل شاب يبحث عن العدالة، أو يريد الانتقام لمقتل والده أو فقدان ماشية أسرته، أو ببساطة يسعى لإثبات ذاته. في ظل غياب مؤسسات الدولة، تصبح هذه التنظيمات الوسيلة الوحيدة لتحقيق معنى ما في الحياة، ولو كان زائفًا. وهذا ما يفسّر استمرار تجدد الحركات الجهادية رغم الحملات العسكرية الواسعة ضدها.
ويعود فشل المقاربات الأمنية في القضاء على التطرف في الساحل إلى تجاهل البعد الإنساني والاجتماعي للأزمة. فالقضاء على “داعش” أو “القاعدة” عسكريًا لا يكفي، ما لم تتم إعادة بناء المجتمعات من الداخل.
والمطلوب اليوم ليس فقط تسليح الجيوش، بل ترميم الروابط الاجتماعية عبر التعليم، ودعم الزعامات المحلية، وتمكين الشباب من المشاركة في إدارة مجتمعاتهم. إذ إنّ إعادة الثقة بين الدولة ومواطنيها هي الخطوة الأولى لإغلاق الباب أمام الجماعات المتطرفة.
إنّ مأساة الساحل ليست في صحرائه ولا في فقره، بل في فقدان الانتماء. فحين ينهار الإحساس بالهوية، يصبح العنف هو اللغة الوحيدة للتعبير عن الذات.
وما لم يُعالج هذا الجرح النفسي العميق، ستظل المنطقة ساحة مفتوحة للتمرد والتطرف، تتناسل فيها الأجيال المقاتلة جيلاً بعد جيل، بحثًا عن معنى ضائع لم يجدوه في مجتمعاتهم، فوجدوه في البندقية.