نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريرا أعده اندريس شيباني قال فيه إن الحرب الأهلية في السودان تحولت إلى ساحة حرب دولية تتنازع فيها الدول على التأثير واستغلال مصادر السودان من الذهب وموقعه الإستراتيجي.
وأشار في بداية التقرير إلى ولد عمره 15 عاما التقاه في مدينة أم درمان، يرتجف كلما سمع صوت إطلاق النار. ففي هذا العام كان يلعب كرة قدم في ملعب عندما اعتقله رجال الميليشيا التابعون لقوات الدعم السريع، حيث سجن مع عدد من الأولاد في سنه، وتم استخدامهم بداية في خدمة المقاتلين مثل غسل ملابسهم وكيها وتلميع أحذيتهم، وتعرضوا للاغتصاب. ثم أجبروا على القتال ضد الجيش السوداني وقدمت لهم منشطات ووضعوا في سيارة لنقلهم إلى ساحة المعركة في جنوب الخرطوم، لكنهم استطاعوا الهرب بعد هجوم مفاجئ بمسيرة، واعتقلهم الجيش السوداني. وهو الآن في بيت آمن بمدينة أم درمان، وقال “تمنيت لو لم تندلع هذه الحرب”، لكنها تحولت إلى حرب طاحنة منذ 15 نيسان/أبريل 2023 حيث يتنازع جنرالان اختلفا على السلطة.
فالقوات السودانية المسلحة هي بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع هي بقيادة محمد حمدان دقلو أو حميدتي، المتهمة قواته بعمليات تطهير عرقي. وقد تعاون الاثنان للإطاحة بعمر البشير عام 2019. ولكنهما الآن يتنازعان على الغنائم حيث قدر المسؤولون الأمريكيون أن الحرب قتلت حتى الآن أكثر من 150,000 شخص. ويتهم كلاهما بارتكاب جرائم حرب، فيما حذرت الأمم المتحدة أن السودان يواجه أزمة لا مثيل لها حيث تشرد أكثر من 10 ملايين نسمة، أي خمس سكان البلد.
ويعاني نصف السكان البالغ عددهم 49 مليون نسمة من الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وهي أسوأ الظروف التي يشهدها البلد منذ وقت. وربما كانت هذه الحرب الأكثر دمارا في العالم ولا توجد إشارة عن نتيجة حاسمة لها أو منتصر واضح فيها، علاوة عن تسوية سلمية لها. وبالإضافة إلى المقاتلين من البلدان المجاورة، فقد اجتذبت هذه الحرب سلسلة من الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية، حيث يتنافس كل منها على النفوذ والسلطة في أرض تعد واحدة من أكبر منتجي الذهب في أفريقيا.
وتقول كلمنتاين نكويتا سلامي، منسقة الشؤون الإنسانية في السودان “مضى على الحرب 16 شهرا ولا نرى نهاية لها في الأفق” و”ما نراه هو القتال والجوع والمرض”. وكما هو الحال في الحروب التي تشهدها أفريقيا، بما فيها الحرب في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، فالأحداث في السودان ظلت تجري تحت رادار الاهتمام العالمي. فقد أثارت الصراعات في أوكرانيا وغزة، التي تعتبر صراعات استراتيجية ذات تداعيات جيوسياسية واضحة، مشاعر التضامن والاحتجاجات الجماهيرية، ولم يكن هناك سوى القليل من القلق والتوتر بشأن السودان.
كل هذا رغم أن الرهانات عالية في السودان، مثل موقع السودان على البحر الأحمر القريب من قناة السويس، الممر التجاري العالمي. وتتهم روسيا ودول في الشرق الأوسط بضخ المال والسلاح للحرب. ويقول أحمد عثمان حمزة، حاكم ولاية الخرطوم “غير 15 نيسان/أبريل 2023 كل شيء في السودان” و”هذه الحرب هي ضد الشعب”. وتسيطر قوات حميدتي الآن على مناطق من معقله الرئيسي في دار فور (بالغرب وجنوب- غرب البلد). وسيطرت على معظم المناطق حول الخرطوم في العام الماضي. وتتعرض العاصمة للحصار فيما تراجع البرهان وقواته إلى بورت سودان التي تبعد 670 كيلومترا شمال- شرق الخرطوم.
وأصبحت الآن 14 ولاية من 18 ولاية في السودان في وسط الحرب. وتقول الصحيفة عن السياق الجيوسياسي بأنه معقد، ففي الوقت الذي يرتشف فيه الطيارون الأوكرانيون المتقاعدون عصير المانجا ويتناولون جراد البحر في بورت سودان إلى جانب قادة القوات المسلحة السودانية، يقوم القناصة الروس أيضا بتدريب جيش البرهان، وفقا لضباط استخبارات سودانيين.
وفي الوقت نفسه، يزعم الجنرالات السودانيون أن قوات الدعم السريع جندت “مرتزقة” من جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان. وتشير تقارير حديثة نشرتها منظمتا أمنستي انترناشونال وهيومان رايتس ووتش إلى أن الأسلحة التي تنتجها دول عدة مثل الصين وإيران وتركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة تتزايد، وسط دعوات متزايدة لتوسيع حظر الأسلحة.
ويؤكد مسؤولون في بورت سودان أن تمويل الآلة العسكرية للقوات المسلحة السودانية يأتي جزئيا من صادرات الذهب، فضلا عما تبقى من الشركات التجارية الضخمة التابعة للجيش.
وكل هذا مدعوم بإمدادات النفط الروسي، حيث أرسلت موسكو منذ بداية الحرب ثماني شحنات من المنتجات النفطية، معظمها ديزل. ويعتقد خبراء الأمم المتحدة أن قوات الدعم السريع مدعومة من أعمال حميدتي في تجارة الذهب والإمارات العربية المتحدة.
وقد قدمت لجنة تابعة للأمم المتحدة ما وصفته بأنها أدلة “موثوقة” تفيد بأن أبو ظبي كانت تزود السودان بالأسلحة. وهي مزاعم ترفضها الإمارات بقوة وتقول إنها تلتزم بموقف محايد من الحرب وإن ما يقال عن دعمها الدعم السريع لا أساس له من الصحة ويهدف لحرف النظر عن القضايا الأساسية.
ويرى المراقبون الدوليون أن دعم الإمارات لحميدتي مدفوع بشكوك من البرهان وأنه قريب من الإسلاميين، الذين كانوا بارزين في عهد البشير. ويقول دبلوماسي أجنبي كبير: “ترى الإمارات العربية المتحدة أن جماعة الإخوان المسلمين بارزة في السودان، وهذا هو ما يدفعهم”. ووضعت الحرب مصادر السودان على المحك، فقد عرقلت برنامج الإصلاح الذي يدعمه صندوق النقد الدولي، وأضعفت قدرة الخرطوم على سداد الديون للدائنين، بما في ذلك الصين، في وقت كانت فيه البلاد تتفاوض على تخفيف أعباء الديون.
وقد انكمش الاقتصاد السوداني بنسبة 40% الماضي، حسب تقديرات جبريل إبراهيم، وزير مالية المؤسسات التي يسيطر عليها البرهان. والسودان، ليس فقط أكبر منتج للذهب في أفريقيا، بل ولديه مصادر غير متوفرة لدول أخرى، بما في ذلك مساحات من الأراضي الصالحة للزراعة على طول نهر النيل. والأهم من ذلك أن شاطئه يمتد 750 كيلومترا على ساحل البحر الأحمر وعلى طول الطريق إلى قناة السويس، حيث تتنافس دول مثل إيران وروسيا والإمارات العربية المتحدة لإيجاد موطئ قدم عليه.
وبعد الإطاحة بالبشير الذي ظل يتأرجح بين إيران والسعودية، قام البرهان بتقوية العلاقات مع الإمارات والسعودية ومصر بل وتقارب مع إسرائيل. وعندما بدأ النزاع الأخير، أخذ البرهان يبحث عن حلفاء له وأعاد الجنرالات العلاقات مع طهران التي وفرت مسيرات للجيش السوداني. ويعلق دبلوماسي غربي قائلا: “هذه الآن حرب شرق أوسطية تدور رحاها في أفريقيا”.
وفي الوقت الذي كان المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر سابقا يقدمون الدعم والتدريب لقوات الدعم السريع، إلا أن الروس حاليا منحازون للبرهان.
ويتحدث القادة العسكريون السودانيون والمسؤولون الروس عن إحياء خطط للسماح بإنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر. ويقول سليمان بالدو من مركز الشفافية ومتابعة السياسة السوداني إن “الإمارات والسعودية وإيران وروسيا تريد موطئ قدم في السودان”، كما و”تريد روسيا الذهب السوداني”.
ودعا المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو الدول والقوى السلبية التي تصب الزيت على الصراع السوداني، للتوقف عن تغذية الحرب وتسليح المشاركين. وأطلقت الحرب العنان لمجازر، أدت لفتح منظمات جنائية دولية التحقيق فيها. ويتهم مقاتلو الدعم السريع بارتكاب مجازر في الحرب الحالية مثلما ارتكب الجنجويد قبلهم مجازر في دار فور بداية القرن الحالي.
وذكرت الصحيفة أن فتاة عمرها 16 عاما اختطفت بداية العام من أم درمان، قالت إن مقاتلين من الدعم السريع ربطاها وضرباها وقاما باغتصابها عدة مرات. وكان صوت التعذيب سُجل لشقيقها الذي اعتقل بتهمة التعاون مع الجيش، ولم تره أبدا. ومع ذلك يتهم الطرفان بانتهاكات حسب مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
ورغم الاتهام الرئيسي للدعم السريع إلا أن جماعات مثل الجيش السوداني متهمة بهجمات ضد المدنيين والمدارس والمستشفيات وغيرها من البنى التحتية. وأكد النائب العام المرتبط بالحكومة التي يديرها الجيش، الفاتح محمد عيسى طيفور أن الدعم السريع متهم بغالبية المجازر. وقال رجل أعمال سوداني عن الدعم السريع: “ما يحدث في السودان لم يحدث منذ العصور الوسطى” و”كانت هناك عدة حروب وحروب أهلية حول العالم لكن لم يفعل أحد ما فعله هؤلاء الرجال، لقد دمروا السودان بشكل مدروس”.
“القدس العربي”