باب المندب: المال والتجارة عصبا الحرب

بيير لوي ريمون

باحث‭ ‬وإعلامي‭ ‬فرنسي

كان عام 1999 العام الذي تحولت فيه رسميا من مقاعد التدريس إلى مكتب الأستاذ.. كما يحلو لي أن أذكره مازحاً، حينها، بوغت بُعيد انطلاق الدروس بكلام زميل أستاذ
للتاريخ والجغرافيا، حين بادرني بهذا السؤال: «هل سمعت بباب المندب؟ «كلا ! لم أسمع به، لا أذكر أن أحدا من أساتذتي كلمنا عنه يوما في مراحل دراستي. يجب أن تعرف عن باب المندب! لا يمكن أن يغيب عنك هذا الاسم، تذكر جيدا: باب المندب.
أهمية قناة السويس كانت أمرا معروفا درسناه في كتب التاريخ في زمن لم تكن فيه التحليلات الجيوستراتيجية مرتبطة بالتجارة العالمية بهذه الحدة، إلى أن دخلنا زمن العولمة الذي أصبح فيه القول المأثور «المال عصب الحرب» بحاجة إلى تدقيق لنضيف إليه «المال والتجارة عصبا الحرب». في هذا السياق تنخرط قراءة جديدة لعالمنا، حيث لم يعد الأمن الإقليمي محصورا في الصراعات البرية، بل ظلت تطاله الممرات الحيوية التي تذكرنا بوجود البحار والمحيطات في قلب الاتفاقات الدفاعية الدولية.
البحر المتوسط، البحر الأحمر – جنوبه أساسا – المحيط الهندي، مواقع استراتيجية تستنفر القوى الدولية من أجلها أساطيلها لمواجهة تهديدات تؤثر في مصالحها. هكذا نفهم الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي موقعا ووظيفة، فهي همزة الوصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر مضيق باب المندب، ما يجعلها منتدى عالميا ومقرا مركزيا لقواعد عسكرية تراقب سريان مفعول الترتيبات البحرية.. أجل، تضم جيبوتي قاعدة عسكرية فرنسية يرابط فيها 1500 جندي منذ استقلال جيبوتي عن فرنسا منذ عام 1977 وقاعدة عسكرية أمريكية تضم 4000 جندي منذ 2002، وتضم أيضاً أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج، بل أول قاعدة عسكرية يابانية منذ الحرب العالمية الثانية. القصة ليست جديدة، فقط دخولها في قلب العناوين الرئيسية لتطورات شؤون الساعة هو الجديد. غير أن التاريخ الذي تذهب مراحله كثيرا في غياهب النسيان، يذكرنا أن للقوى الغربية حضورا في المنطقة، أرخ له أرشيف موازين القوى الدولية. كفانا ذكرا، على سبيل المثال لا الحصر، السيطرة البريطانية على ميناء عدن (1869 – 1967)، والإدارة مشتركة المصرية – البريطانية على السودان (1899-1956)، ما أعطى لبريطانيا فرصة تعزيز نفوذها ما بين المتوسط والقرن الافريقي. ومنذ أمد بعيد أيضا، تعرف جيدا كل من إريتريا والسودان ومصر وإسرائيل والأردن والسعودية، بصفتها بلدانا ذات واجهات بحرية مطلة على البحر الأحمر، مدى الأهمية الاستراتيجية التي يشكلها المسار الذي يضمن لها ارتباطا اقتصاديا بالشرق الأقصى، كما أدركه جيدا أيضا البرتغاليون، في زمن أوج رحلاتهم ذات المآرب التجارية المعلنة، وهم متموقعون في جزيرة سقطرى وعينهم على خليج عدن والمنافذ إلى البحر الأحمر.
وما كان لشق قناة السويس سنة 1839، وإن أتاح اختصار المسافة إلى المحيط الهندي بمقدار الضعفين، ليصد مستخدمي ممرات الشرق الأقصى من تفعيل تبادلاتهم، بل حالف التاريخ هؤلاء بامتياز، بعد اكتشاف أول حقول النفط في شبه الجزيرة العربية في الثلاثينيات من القرن الماضي، حينها، لم تعد مسارات الشرق الأدنى مجرد نقاط عبور للبضائع إلى منطقة آسيا، فقد أدخل التاريخ مضيق باب المندب وإخوته في قلب الملاحة العالمية وجعل منها عصب الحرب الجديد: الحرب على الطاقة.
هكذا تذكرت زميلي.. وتذكرت معه «باب المندب»!
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

Share this post