أمدرمان في قلب حرب السودان: سكان يتمسكون بالبقاء وتوقع تصعيد عسكري

الخرطوم ـ «القدس العربي» : «أمدرمان ستظل صامدة» هكذا يقول بعض أهالي المدينة العريقة في العاصمة السودانية الخرطوم، رغم استمرار المعارك الممتدة لقرابة الـ6 أشهر هناك بين الجيش وقوات «الدعم السريع» والتي خلّفت آلاف الضحايا ما بين قتيل وجريح ونازح.
تقع أمدرمان على طول الضفة الغربية لنهري النيل والنيل الأبيض، قبالة مدينة الخرطوم وغرب مدينة الخرطوم بحري، وتعد أكبر مدن العاصمة الثلاث والأكثر كثافة سكانية.
ويحكي تاريخها عن معارك بطولية خاضها السودانيون في مواجهة المستعمرين الإنكليز والأتراك، وما زالت تحتفظ بمعالم «الطوابي» (أسوار تاريخية) وثقت لجسارة الجنود أبان الثورة المهدية.
وتوجد في المدينة الاستديوهات الرئيسية لإذاعة وتلفزيون السودان الرسميين، ومبنى البرلمان والمستشفى العسكري ـ السلاح الطبي ـ وقاعدة ومطار وادي سيدنا العسكري ومسجد النيلين الأشهر في الخرطوم. كما يقع جنوبها، مطار الخرطوم الدولي الجديد ـ قيد الإنشاء ـ والمسرح القومي وأكبر الأندية الرياضية، نادي الهلال ونادي المريخ.
انخرطت المدينة التي كانت توصف بالأمان (أمدرمان أمان) في دوامة حرب السودان المدمرة منذ يومها الأولى منتصف أبريل/نيسان الماضي وظلت أحياؤها المتاخمة للوحدات العسكرية لطرفي النزاع ميدانا مفتوحا لمعارك ضارية تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة والخفيفة.
ويتقاسم الطرفان السيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية والعسكرية في المدينة، إضافة الى لانتشار داخل الأحياء السكنية.
والأسابيع الماضية كانت أمدرمان جبهة القتال الأكثر سخونة في العاصمة مع محاولات الجيش التقدم وقطع إمدادات «الدعم» القادمة من غرب السودان إلى مدينتي الخرطوم وبحري.

خريطة السيطرة

ويحتفظ الجيش بمعسكر سلاح المهندسين جنوب المدينة والذي يشهد على الدوام عمليات كر وفر من قبل قوات «الدعم» التي تسعى للسيطرة عليه، كذلك السلاح الطبي وقاعدة كرري العسكرية شمالا.
وتحتفظ قوات «الدعم» بمعسكر «صالحة» في الجنوب الأقصى بعد أن فقدت معسكر «جبل سركاب» في كرري عقب خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد في الأيام الأولى للحرب.
كما تمددت «الدعم» في أحياء الريف الجنوبي، وفي جزء كبير من أمبدة وتتقاسم مع الجيش السيطرة في أحياء أمدرمان القديمة أبوروف، العباسية، حي العمدة، العرضة، بيت المال، ودنوباوي.
وتسيطر قوات «حميدتي» كذلك على مبنى الإذاعة والتلفزيون، وعلى جسر شمبات الرابط بين أمدرمان والخرطوم بحري وهو طريق الإمداد الرئيسي لها الى بقية مدن العاصمة.
في المقابل، يبسط الجيش نفوذه على منطقة كرري وحارات الثورة والريف الشمالي، وكبري الحلفايا، وجسري الفتيحاب والسلاح الطبي ناحية أمدرمان، بالإضافة إلى أجزاء من أمبدة والأحياء القديمة والفتيحاب والمربعات والمهندسين.

«القدس العربي» جالت في مدينة أمدرمان… وطرفا الصراع يتقاسمان السيطرة عليها

وتسببت الحرب في أمدرمان بفرار الآلاف من السكان إلى مناطق آمنة داخل وخارج العاصمة، لكن آخرين ظلّوا متمسكين بالبقاء وعدم ترك منازلهم، على الرغم من الخطر المحدق نتيجة الاشتباكات المتواصلة وسوء الأوضاع المعيشية وشحّ السلع والخدمات.
ويمثل الفنان أبوعركي البخيت أبرز الرافضين لخيار المغادرة، إذ فضّل أن يبقى وسط القصف ونيران المدافع في منزله في حي العرضة وسط مدينة أمدرمان على أن يتركه في إطار رفضه للحرب، مما وجد صدى واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي.

«البحث عن أمل»

كذلك الشاعر السوداني الشهير هاشم صديق، كان يفضل البقاء في منزله في حي بانت، لكن تدهور حالته الصحية قبل أسابيع أدى إلى إجلائه عن طريق عربة يجرها حصان، مما أثار جدلا كذلك في وسائل التواصل.
وقال صديق، في تسجيل صوتي وقتها، إن خروجه من منطقته المحاصرة «ليس خوفا من الموت بل للبحث عن أمل في الحياة، من أجل مواصلة أعماله الإبداعية» التي ظلت تشكل الوجدان السوداني لنحو 5 عقود.
وأضاف : «رغم الوهن الجسدي والنفسي» فإنه يسعى لـ«إيجاد مكان آمن يلقى فيه الرعاية الطبية، ويواصل إنتاج الشعر والكتابة».
وفي السياق ذاته، قال المواطن صلاح الدين محمود (55 عاما) يسكن حي العمدة، لـ«القدس العربي»: «لن أترك منزلي للنهب، قمت بإخراج أطفالي وزوجتي، سأنتظر هنا، وأمدرمان ستظل صامدة حتى يتحقق النصر وتعود كما كانت».
وتعتبر منطقة الثورة في كرري شمال أمدرمان، أفضل المناطق في المدينة، بل والعاصمة عموما، وقد لجأت إليها غالبية الفارين من أمدرمان القديمة ومناطق أخرى في العاصمة.
«القدس العربي» قامت بجولة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة الجيش، إذ بدت الحياة هناك شبه طبيعية. حركة المواصلات كثيفة والمحال التجارية تفتح أبوابها بصورة اعتيادية. كما تتنشر قوات الجيش الشرطة في الأرجاء، على طول الشوارع الرئيسية والفرعية، فضلا عن أماكن داخل الأحياء. وفي التقاطعات الرئيسية، تنتصب المدافع والدبابات والآليات الثقيلة.

مصدر رعب

قاعدة وادي سيدنا الواقعة في الناحية الشمالية، تعد مصدر الرعب الرئيسي، حيث يسمع دوي قصف المدفعية المستمر والذي يستهدف تجمعات وارتكازات قوات «حميدتي» في الأحياء القديمة، وغربا في أمبدة، فضلا عن مواقع أخرى في مدينتي الخرطوم وبحري.
والقاعدة نفسها هي هدف لمدفعية الطرف الآخر من مواقع تمركزها في بحري، وقد أدى ذلك إلى مقتل 14 شخصاً وجرح آخرين في قصف عشوائي طال حي الجرافة القريب منها.
في منطقة الثورة يوجد مستشفى النو، وهو آخر مستشفى حكومي يعمل في المدينة، ويستقبل دون توقف إصابات المدنيين جراء القصف العشوائي والاشتباكات المستمرة، وسط شح في الأدوية والمعدات والمعينات الطبية.
أما سوق «صابرين» في الثورة، فهو الأكثر نشاطا على مستوى أمدرمان بعد دمار وتخريب ونهب طال الأسواق الأخرى مثل السوق الشعبي وسوق أمدرمان وأجزاء من سوق ليبيا.
واللافت أن أسواق المنهوبات المعروف بـ«أسواق دقلو» بالإشارة إلى قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» تمددت كما في الخرطوم وبحري، في حارات الثورة ومناطق سيطرة الجيش. وتفيد تتبعات حركات البضائع في هذه الأسواق بأن أغلبها منهوبات ومسروقات من أحياء أمدرمان القديمة والمنطقة الصناعية، والغريب أنها تباع على مرمى من الشرطة دون أن تتدخل.
أمدرمان التي تقاوم الحرب الآن ويتمنى سكانها أن تعود إلى سابق عهدها، يتوقع خبراء عسكريون أن تشهد معارك طاحنة في الفترة المقبلة، إذ حشد الجيش أعدادا ضخمة من الجنود والآليات في التخوم الشمالية للمدينة، بينما أعادت قوات «الدعم « انتشارها في مناطق سيطرتها تحسبا لأي هجوم مباغت.

Share this post