حظيت كلمة رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، التي ألقاها نهاية الأسبوع الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، باهتمام واسع بين السودانيين. على الرغم من محاولات التشويش، إلا أن مشاعر الزهو كانت غالبة، حتى بدا وكأن الجميع تناسوا خلافاتهم القديمة، ليصبح لديهم هدف وحيد، وهو القضاء على تلك الميليشيا العنصرية والبربرية، التي عاثت في البلاد فسادا. نتج عن هذه الحرب المفاجئة ذوبان التحفظات القديمة حول الجيش السوداني، التي وصلت حد مطالبة البعض بتفكيكه. يكفي أن يفكر السودانيون اليوم بمصيرهم في ما إذا كانوا بلا خطوط دفاع، أو ما إذا كانت مهمة السيطرة على الخرطوم سهلة، كما كان يتوقع المتمردون، ليدركوا أهمية وجود جيش وطني.
يستعيد الجيش اليوم صورته كحامٍ للبلاد بعد سنوات من التشويه والتحقير، ليمارس مهامه في منع سقوط العاصمة في قبضة الفوضويين. مسنودة من قبل الملايين، الذين لم يبخلوا عليها بأي شيء، ابتداء من إعلان جاهزيتهم للتطوع والقتال ونهاية بالدعاء والدعم المادي والعيني، تتابع القوات المسلحة السودانية تقديم تضحيات مختلفة من أجل استعادة الأمان الكافي والخدمات، التي تساعد الآلاف من المطرودين على العودة بسلام.
مقترحات العودة لتقاسم السلطة، وإعادة استيعاب المجموعات المتفلتة والمتهمة محليا ودوليا بمجازر واغتصابات، غير واقعية
تغيرت أشياء كثيرة بعد الحرب، أغلب المثقفين والشخصيات العامة، من الذين عرفوا بانتقادهم للمؤسسة العسكرية ولقادتها، أصبحوا من دعاة التوحد خلف الجيش، قائلين إن البديل عنه هو حكم الميليشيا، وهو شيء لا يوجد ما هو أسوأ منه. أهالي الخرطوم باتوا قادرين على فهم ما يعنيه ذلك، بعدما رأوا بأم أعينهم كيف يستهتر قادة ومجندو ما كان يعرف سابقا بـ»قوات الدعم السريع» بحياة البشر، وكيف أنهم لا يتورعون عن قتل أو أسر أو تعذيب أي شخص، لمجرد الشك أو الارتياب. في ذهن الجميع اليوم الصور الموثقة للجرائم التي ارتكبتها الميليشيا، صور التقطها مجرمون لأنفسهم في لحظات اغتصاب أو تمثيل بجثة أو إعدام لأسرى. ما يقال عن الجيش يمكن أن يقال عن قائده البرهان، الذي التف السودانيون حوله بعدما وضعته الأحداث في مقابل محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما جعل خيارات الناس واضحة. جميع التحفظات السابقة، من قبيل الاتهام بقربه من نظام البشير، أو نيته الاستمرار في الحكم، صارت بلا وزن. في الوقت الذي أصبحت فيه قوات دقلو وقيادتها خاضعة لاتهامات دولية بممارسة انتهاكات واضحة وتنفيذ جرائم حرب، يصر البعض، عن سوء نية أو جهل، على وصف الأمر بأنه معركة بين رجلين، الغرض من هذا التوصيف، في أغلب الأحيان، هو الإيحاء بوجود حالة من الانقسام الشعبي، وبأن الرجلين متساويان في سندهما الجماهيري وفي ثقل الداعمين. الحقيقة، التي يدركها أي متابع، هي أن معركة اليوم صارت بين الشعب السوداني من جهة، والميليشيا التي تريد اختطاف الدولة من جهة أخرى. الدليل على صحة ذلك أنه، وفي الوقت الذي يمكنك أن تعدد فيه أسماء لا تحصى من الداعمين للجيش في معركته الهادفة لتحرير الخرطوم، فإنك لا تكاد تجد اسما سودانيا محترما ومعروفا قادرا على الخروج على العلن وإعلان دعمه لمشروع «الدعم السريع». الحال مشابه بالنسبة لرجال الدين وخطباء الجمعة، الذين لم نسمع أن أحدا منهم أنهى خطبته يوما بالدعاء لنصر دقلو أو لانهزام الجيش، الذي يسمى في خطابات الميليشيا، بجيش الفلول. هنا مفارقة مضحكة يصعب تجاوزها، إذ يأتي هذا التوصيف من مجموعة أنشأها البشير بغرض حمايته. الأمر يمتد أيضا للسياسيين المتهمين بالولاء لحميدتي. من يطلق عليهم تهكما اسم «الجناح السياسي للدعم السريع»، بسبب اجتهادهم في تبرئة المعتدين، أو في تمييع الواقع بالحديث عن جرائم مرتكبة من قبل «الأطراف المتحاربة». حتى هؤلاء يستحون من مواجهة الشعب السوداني بحقيقة موقفهم، الذي لا يمكن فهمه إلا في إطار الرهان على انتصار الميليشيا، أملا في تقاسمٍ مستقبلي للسلطة معها.
«لا للحرب» شعار جميل وإيجابي، لكنه يدفع في الوقت ذاته للتساؤل والشك، خاصة حين تعلم أن كثيرا من أنصار الميليشيا يرفعونه في وجه المترقبين لانتصار الجيش، وذلك للسخرية منهم وإظهارهم بأنهم فريق مهووس بالحرب والقتل والتدمير، ولا يرغب سوى في استمرار حالة الفوضى. يعلم رافعو هذا الشعار المضلل أن لا أحد عاقلا يحب الحرب، وأن كل السودانيين، وهذا يشمل من كانوا خارج البلاد أيضا، متضررون، من امتداد رقعة الدمار. كذلك يعلم أصحاب هذا الشعار، الذي هو كلمة حق في غير موضعها، أن أغلب المتحمسين للقضاء على «الجنجويد»، الذين دمروا الأخضر واليابس، ليسوا هم المغتربين في الخارج كما يشيعون، بل أغلب ساكني المناطق المتضررة، الذين فقدوا خلال الأشهر الماضية الكثير من الأحبة، هذا غير المدخرات والممتلكات. مئات الآلاف، الذين اضطروا للنزوح واللجوء بسبب هذه الأحداث، لم يعودوا يفكرون إلا بضرورة أن يأخذ كل من أجرم في حقهم جزاءه. بالنسبة لهؤلاء، فإن الحديث عن وقف الحرب «بأي ثمن»، وإن كان ذلك يشمل تسليم البلاد لمن استباحها، ليس له اسم سوى الخيانة. في كل نقاش مع الجماعة المتواطئة مع المتمردين تحت ذريعة «رفض الحرب» كان يتردد سؤال بسيط عن البديل، الذي يمكن بواسطته وقف المأساة وحفظ ما تبقى من أرواح وممتلكات. هذا السؤال، على بساطته، لم يجد أي إجابة خلال الشهور الماضية، سوى تكرار الحديث عن أضرار الحرب المعروفة والمعاناة، التي تسببها، للمدنيين. في الحوارات التلفزيونية مع داعمي الميليشيا كان الجميع ينتظر أن تتم الإجابة عن كيفية تنفيذ مطلب إنهاء الحرب، لكن النقاش كان يتم توجيهه لقضايا أخرى من قبيل السؤال عمن بدأ الحرب وعن دور «الفلول» في إشعالها وعن الجيش، الذي تسيطر على قراره خلايا تابعة للنظام السابق. كل تلك كانت موضوعات تطرح بهدف التهرب من مواجهة العقدة الرئيسة: ما البديل عن الحرب لإيقاف الفوضى والدمار الحالي؟
كلمة «تفاوض» كانت تدور في ذهن البعض كحَل. هذا يعني أنهم كانوا يشبهون الصراع الحالي بصراعات أخرى دخلت فيها الحكومة المركزية مع مجموعات نازعتها السلطة أو الشرعية وانتهت بالحوار أو بتقاسم السلطة. ما يرفض أن يفهمه من يتحدث ببساطة عن وضع السلاح والتوجه نحو طاولة مفاوضات تنتهي بمصافحة واتفاق سلام، هو أن الأمر هذه المرة شديد الاختلاف. نتذكر أن حروب السودان الممتدة منذ الاستقلال، وعلى ما فيها من مآسٍ، كانت تخاض بشرف. قد يكون الاستثناء الأكبر في تاريخ الحروب السودانية الحديثة هو انتهاكات الجنجويد في دارفور، وهي انتهاكات شاذة، لدرجة أنه كان يصعب على كثيرين تصديق حدوثها، وربما لولا تكرارها اليوم بشكل حديث في الخرطوم، لثبت أولئك على إنكارهم.
إدراك هذا الاختلاف يجعل مقترحات العودة لتقاسم السلطة، وإعادة استيعاب هذه المجموعات المتفلتة والمتهمة محليا ودوليا بمجازر واغتصابات، غير واقعية.
مع ذلك، فإن رفض مبدأ التفاوض لم يأت من الوفد الحكومي، الذي أعلن انفتاحه منذ البداية على كل الوساطات، بل من الميليشيا، التي ظلت ترفض تعهدا بديهيا وبسيطا، وهو الخروج من بيوت الناس ومن المرافق العامة والمستشفيات، التي بدأت في احتلالها واستباحة مقتنياتها منذ أول يوم.
كاتب سوداني- نقلا عة (القدس العربي)