مقال المحرر: حاتم المدني
التاريخ السياسي الحديث للسودان مثالًا مكثّفًا على تعقّد مسارات بناء الدولة في البيئات ما بعد الاستعمارية، حيث تتداخل العوامل التاريخية بالتركيبة الاجتماعية وباختيارات النخب السياسية والعسكرية لتنتج مسارًا طويلًا من الإخفاق البنيوي في بناء دولة مستقرة ومنتجة وعادلة. فعلى الرغم من أن السودان دخل منتصف القرن العشرين وهو يمتلك مقومات موضوعية لنهضة كبيرة من موارد زراعية ومائية هائلة، وإرث إداري حديث، وموقع جغرافي إستراتيجي فإن مسيرته منذ الاستقلال اتجهت في اتجاه مغاير، نحو الانقلابات والصراعات الأهلية والانقسامات الجغرافية والانهيار التنموي. هذا التناقض بين الإمكانات والنتائج هو ما يحاول هذا المقال تحليله في إطار مقاربة سياسية–تاريخية–تنموية مترابطة.
إرث الحكم الثنائي وبذور الأزمة
تشكّلت الدولة السودانية الحديثة في ظل الحكم الثنائي الإنجليزي–المصري الذي أعقب سقوط دولة المهدية في نهايات القرن التاسع عشر، حيث أعاد هذا الحكم بسط الأمن وفرض سلطة مركزية موحدة بعد فترة من الاضطراب والتنازع القبلي والديني. في إطار هذا الحكم، شُيِّدت أجهزة إدارية حديثة، وأُدخل التعليم النظامي المدني، وأُسِّست مؤسسات خدمية وصحية كانت بمثابة قطيعة نسبية مع أنماط التنظيم التقليدية، كما تم إطلاق مشروعات بنية تحتية كبرى مثل مشروع الجزيرة والسكك الحديدية والموانئ، ما جعل السودان جزءًا فاعلًا وإن تابعًا في الاقتصاد العالمي آنذاك. غير أن هذه الإنجازات جرى بناؤها فوق قاعدة اجتماعية مختلّة، إذ تركّز الاستثمار التعليمي والإداري في أقاليم الشمال النيلي والوسط، بينما حُرمت مناطق واسعة في الجنوب والغرب والشرق من فرص مماثلة، بما أرسى مبكرًا ملامح التفاوت الجهوي الذي سيتحوّل لاحقًا إلى أحد أعمدة الأزمة الوطنية.
السودنة، الاستقلال، واستمرار البنية الاستعمارية
مع تصاعد الحركة الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين، برزت النخبة المتعلمة التي أنتجها التعليم الاستعماري لاعبًا أساسيًا في المطالبة بالمشاركة في إدارة البلاد، فتبلورت سياسة “السودنة” باعتبارها انتقالًا تدريجيًا للسلطة من أيدي الإداريين الأجانب إلى السودانيين. غير أن هذه العملية اتسمت بالتعجل والاختلال، إذ جرى إحلال نخبة وطنية محدودة غالبيتها من الشمال النيلي والوسط محل جهاز إداري أجنبي متمرس، دون أن تُستكمل عملية التأهيل الفني والمؤسسي اللازمة، ودون معالجة فجوة تمثيل الأقاليم والمجموعات المختلفة داخل مؤسسات الدولة.
وعندما رُفع علم الاستقلال في الأول من يناير 1956، كان استقلال السودان في جوهره استقلالًا سياسيًا عن المستعمر، لكنه لم يكن استقلالًا عن البنية التي صاغها ذلك المستعمر: دولة مركزية قوية في الخرطوم، محاطة بأطراف مهمشة، ونخبة ضيقة تمسك بمفاصل القرار.
في هذا السياق، جاء قرار الاستغناء السريع عن الكوادر الإدارية الأجنبية التي شكّلت لسنوات العمود الفقري للإدارة الحديثة له ليخلق فراغًا مؤسسيًا حادًا في لحظة كانت تحتاج إلى زيادة في الكفاءة لا إلى إنقاصها. وهكذا، تحوّل الاستقلال إلى لحظة رمزية عالية الشحنة العاطفية، لكنها لم تترافق مع مشروع عملي مدروس لبناء مؤسسات مستقرة، أو لإعادة توزيع السلطة والثروة على نحو يعكس تعددية المجتمع السوداني الفريدة.
الطائفية السياسية والنخب المتعلمة والعسكرة
لم يكن المشهد السياسي الذي ورث الاستعمار متجانسًا أو متوافقًا، بل تشكل من تحالفات وتقاطعات بين ثلاث قوى رئيسية: الأسر والبيوتات الطائفية ذات الجذور الدينية العميقة، والنخب المتعلمة المدنية، والمؤسسة العسكرية. فقد استطاعت الزعامات الطائفية، بحكم نفوذها الروحي والاجتماعي، أن تتحول إلى قوة سياسية منظَّمة من خلال الأحزاب المرتبطة بها، وأن تستثمر الحس الديني والعاطفي لدى قطاعات واسعة من الشعب في معارك سياسية حول السلطة والتمثيل. في المقابل، رأت النخب المتعلمة في هذه البيوتات بوابةً ضرورية للوصول إلى الجمهور وبناء قواعد انتخابية، فانخرطت في تحالفات عززت حضور الطائفية بدل أن تحدّ منه، وهو ما انعكس على بنية الأحزاب وطرق عملها وبرامجها.
ومع تعثر التجربة البرلمانية الأولى، وتفاقم الصراعات الحزبية، وتزايد الشعور بالعجز عن إدارة البلاد وفق قواعد ديمقراطية مستقرة، برز الجيش كفاعل سياسي “منقذ” في خطاب قطاعات من النخبة والمجتمع. فجاء انقلاب 1958 ليؤسس لأول مرة قاعدة تدخّل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، ويتبعه لاحقًا انقلاب مايو 1969، ثم انقلاب 1989، في نمط يكشف عن أن الانقلابات العسكرية تحوّلت إلى “آلية دورية” لتغيير السلطة في ظل غياب تقاليد راسخة للتداول الديمقراطي.
ومع كل دورة انقلابية، كانت المسافة بين الدولة والمجتمع تتسع، وتتغلغل الأجهزة الأمنية والعسكرية في كل مفاصل إدارة الشأن العام، على حساب الخدمة المدنية المهنية والمؤسسات الرقابية.
التنمية غير المتوازنة والصراع الأهلي
على المستوى التنموي، لم تستطع الحكومات المتعاقبة مدنية كانت أم عسكرية تحويل الثروة المادية والبشرية للسودان إلى مشروع تنموي متوازن ومستدام، بل تم غالبًا توظيف التنمية نفسها كأداة من أدوات السيطرة السياسية.
فقد تركزت الخدمات الأساسية والبنى التحتية والفرص الاقتصادية في العاصمة ومناطق محددة من الشمال والوسط، بينما بقيت الأقاليم الأخرى في حالة تهميش مزمن، يعاني سكانها من الفقر وضعف الخدمات وغياب التمثيل الملائم في مراكز اتخاذ القرار. ومع مرور الوقت، لم يعد هذا التفاوت مجرد فجوة اقتصادية، بل تحوّل إلى شعور عميق بالظلم لدى سكان الأطراف، غذّى الهويات المحلية والقبلية والإثنية بوصفها بدائل عن هوية وطنية جامعة لم يتح لها أن تتبلور في إطار دولة عادلة.
في هذا المناخ، تفجرت الحروب الأهلية في الجنوب، ثم في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وغيرها من الأقاليم التي شعرت أن الدولة المركزية تمارس عليها تهميشًا مركبًا: سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا ولاحقاً دينياً .
وقد انتهى الصراع في الجنوب بانفصال دولة جنوب السودان عام 2011، في مشهد يعكس مدى فشل الدولة السودانية في إدارة التعدد وتحويله إلى مصدر قوة. أما في دارفور ومناطق أخرى، فقد تراكمت الانتهاكات والنزوح والدمار، وأصبحت صورة السودان في الأدبيات الدولية أقرب إلى نموذج “الدولة الهشة” أو “الدولة الفاشلة” التي تعجز عن احتكار العنف، وتقديم الخدمات الأساسية، وضبط حدودها، وحماية مواطنيها.
من الدولة الواعدة إلى الدولة الفاشلة
إذا ما أُجريَت مقارنة بين السودان في منتصف القرن العشرين والسودان في بدايات القرن الحادي والعشرين، سيظهر الفارق بوضوح: فقد كان السودان في فترة ما قبل الاستقلال وبعده بقليل يُنظر إليه كدولة ذات إمكانات كبيرة، بمشروع زراعي عملاق، وشبكة سكك حديدية متقدمة على المستوى الإقليمي، وموارد طبيعية وثروات غير عادية معدنية وغيرها وبشرية قادرة على أن تجعل منه نموذجًا افريقيًا صاعدًا. في المقابل، وجد السودان نفسه بعد عقود من الاستقلال أمام واقع انهيار تلك البنى الإنتاجية، وانكماش المشروع الزراعي، وتدهور السكك الحديدية، وتراجع الخدمات الأساسية من تعليم وصحة، واتساع رقعة الفقر والهجرة والنزوح.
هذا الانتقال من “الدولة الواعدة” إلى “الدولة الفاشلة الهشة ” لم يكن نتيجة ظرف طارئ، وإنما حصيلة مسار طويل من الخيارات السياسية الخاطئة، والتوظيف الزبائني لموارد الدولة، وإقصاء الكفاءات الإدارية لصالح المحسوبية الحزبية والقبلية والطائفية، بالإضافة إلى عسكرة الحياة العامة وإفسادها واستخدام العنف أداة لإدارة الخلاف. وهكذا، تآكلت شرعية الدولة، وفقد المواطن ثقته في قدرتها على تمثيله وحمايته وتوفير الحد الأدنى من العدل والكرامة.
آفاق الإنقاذ وإعادة البناء
أمام هذا الواقع المعقد، لا يعود السؤال هو: ما الذي حدث؟ بقدر ما يصبح: ما العمل؟ وما الشروط الضرورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروع الدولة الوطنية في السودان؟ يبدو واضحًا أن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يقوم على إعادة تدوير نفس النخب التي أسهمت في صناعة الأزمة، ولا على مقاربة سطحية ترى الحل في تغيير الوجوه دون تغيير القواعد. المطلوب هو إعادة تفكير جذري في طبيعة الدولة نفسها، وفي العلاقة بين المركز والأطراف، وبين السلطة والمجتمع، وبين الاقتصاد والسياسة وبين توجهات الدولة ومعتقدات الفئات الدينية.
يتطلب ذلك، أولًا، إعادة بناء الخدمة المدنية على أساس الكفاءة والحياد، بما يعيد الاعتبار للمهنية الإدارية، ويقطع مع استخدام الوظيفة العامة كغنيمة سياسية أو طائفية أو دينية . كما يتطلب، ثانيًا، تبني نموذج حقيقي للامركزية او فيدرالية حقيقية تتيح للأقاليم المشاركة الفعلية في إدارة مواردها، ووضع خططها التنموية، والمشاركة في السلطة بعيدًا عن منطق “العطايا” المركزية. ويتطلب، ثالثًا، إخضاع المؤسسة العسكرية بكل تشكيلاتها للسلطة المدنية المنتخبة، وإعادة هيكلة القطاع الأمني بما يضمن احتكار الدولة للعنف في إطار القانون، لا في إطار الصراع بين مراكز قوى مسلحة متعددة.
إلى جانب ذلك، يحتاج السودان إلى مسار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية جاد، يعترف بالجرائم والانتهاكات التي وقعت في الحروب والنزاعات، ويمنح الضحايا حقهم في الحقيقة والإنصاف، ويفتح الباب أمام بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية لا على الهويات المتصارعة. كما يحتاج إلى رؤية تنموية تجعل الإنسان في كل أقاليم السودان محور السياسات، بدل أن يبقى رهينة تجاذبات النخب.
قولة حق اخيرة
يكشف التأمل في المسار التاريخي السياسي والتنموي للسودان أن الأزمة الراهنة ليست مجرد تعثر عابر، بل هي نتيجة تفاعل عميق بين إرث استعماري ترك دولة غير متوازنة، ونخب وطنية عجزت أو لم ترد أن تحوّل الاستقلال إلى مشروع لبناء مؤسسات عادلة وفعّالة.
وبينما يحتفل السودانيون في كل عام بذكرى الاستقلال، لسبعة عقود متتالية يبقى السؤال مفتوحًا: أي استقلال نحتفي به ما لم تستقل الدولة عن الفساد والطائفية والعسكرة، وما لم تصبح مؤسساتها في خدمة المجتمع لا في خدمة فئة ضيقة منه؟ إن استعادة مشروع الدولة الوطنية في السودان لن تكون ممكنة إلا إذا جرى الانحياز بوضوح لكفاءة الإنسان لا لانتمائه، ولعدالة التنمية لا لامتياز النخب، ولحكم القانون لا لحكم السلاح، وهي خيارات صعبة لكنها وحدها ما يمكن أن يضع حدًا لمسار السقوط الحر الذي طال أمده.
