القاهرة – في حديث نادر بعد فترة من الغياب عن المشهد العام، شدّد المدير الأسبق لجهاز المخابرات العامة السوداني، الفريق أول صلاح عبد الله قوش، على أن الأولوية في هذه المرحلة هي الحفاظ على أمن السودان واستقراره، محذراً من “مخاطر يجري التخطيط لها” تستهدف الولاية الشمالية، ومؤكداً أن ما يعنيه بالدرجة الأولى هو “حماية سكان الولاية” من أي اضطرابات أو انفلات محتمل.
جاءت تصريحات قوش، حسب ما تناقلت مواقع اخبارية محلية وفقاً لما رواه الناشط أحمد عبد الوهاب، خلال لقاء خاص أقيم في القاهرة بمنزل قوش بضاحية التجمع الخامس، بحضور عدد من الشخصيات السودانية والعربية، وذلك في مناسبة اجتماعية أقيمت على شرف أزهري المبارك، أحد أبناء الولاية الشمالية المعروفين بنشاطهم في الشأن الاجتماعي والإنساني.
لقاء اجتماعي يتحوّل إلى حوار حول الأمن والسياسة
وبحسب ما تم نقله عن الناشط عبد الوهاب، فقد أوضح المنظّمون للحضور أن الدعوة “لا تحمل أي طابع سياسي”، غير أن النقاش تحوّل سريعاً إلى تناول ما تشهده البلاد من تطورات خطيرة في ظل الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ مطلع 2023.
وخلال كلمته، تحدّث قوش عن تجربته الطويلة في إدارة الملفات الأمنية الحساسة، مشيراً إلى أن “كل مرحلة تحتاج إلى أشخاص قادرين على التعامل مع تحدياتها”، وداعياً إلى “خطوات مدروسة” لاستعادة الأمن والاستقرار في البلاد. وشدّد على أن السودان يعيش “منعطفاً خطيراً” يتطلّب إدارة رشيدة ووعياً وطنياً لتفادي مزيد من الانقسام.
الولاية الشمالية في دائرة الاهتمام
وكان قوش في السابق ايضا يركز حديثه عن الولاية الشمالية، حيث اشار في عدة مناسبات سابقه في عهد النظام السابق الى إن هناك “تحركات وخططاً من مجموعات مليشياوية” تستهدف أمن المنطقة واستقرارها، داعياً السكان إلى اليقظة والتكاتف في حماية مجتمعهم.
وتأتي هذه التصريحات في وقت تشهد فيه مناطق الشمال من مروي إلى دنقلا توتراً متزايداً بسبب النزوح، وتنامي النشاط المسلح على أطراف الحدود مع مصر وليبيا، وازدياد عمليات التهريب عبر طرق صحراوية معقدة.
ويحذر مراقبون من أن انتقال الصراع من العاصمة والمناطق الغربية إلى الشمال سيشكل تهديداً إضافياً لوحدة السودان واستمرار مؤسساته الحيوية.
إشادة بشخصيات محلية ودعوات للتنمية
وخلال اللقاء، أثنى قوش على شخصية أزهري المبارك، معتبراً أنه من “الكوادر القادرة على خدمة السودان والولاية الشمالية”، مؤكداً أن أنشطته وأعماله ذات “طابع مؤسسي وتنموي يحظى بتقدير واسع”.
وأوضح أن السودان بحاجة إلى “مشروعات متكاملة” تعيد الثقة بين المركز والأطراف، مشيراً إلى أن “المعسكرات والمبادرات الشبابية الجارية في الشمال تسهم في تضييق الفجوة التاريخية مع مناطق الغرب”، وهي الفجوة التي وصفها بأنها “من أعقد المشكلات التي واجهتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال عام 1956”.
حديث تصالحي وتحذير من الانقسام
ورغم الطابع الأمني للمداخلة، اتسم خطاب قوش بنبرة تصالحية، إذ أكد أن “التغيرات الإيجابية بدأت تظهر رغم وجود أصوات تدعو للانقسام”، داعياً إلى الحفاظ على وحدة الصف الوطني ورفض الخطابات التي تزرع الكراهية بين المكونات الإقليمية.
ويرى محللون أن تصريحات قوش تأتي في سياق محاولات لفتح قنوات تواصل جديدة بين النخب الشمالية وجهاز الدولة، وسط حالة فراغ سياسي وأمني متفاقمة. ويشير البعض إلى أن ظهوره العلني في القاهرة قد يعكس رغبة في لعب دور توفيقي من خارج البلاد، خصوصاً في ظل موقعه السابق وحجم علاقاته الإقليمية الممتدة.
خلفية عن قوش ودلالات الظهور الجديد
يُعد صلاح قوش من أبرز الشخصيات الأمنية في السودان خلال العقدين الماضيين، إذ شغل مناصب حساسة في عهد النظام السابق، وكان له دور بارز في ملفات مكافحة الإرهاب والتنسيق الأمني الإقليمي، وارتبط اسمه بعلاقات موازية مع أجهزة استخبارات في دول عربية وغربية.
ومنذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019، ابتعد قوش عن المشهد، قبل أن تعود الأضواء لتسلط عليه مع تعقّد الحرب بين الجيش والدعم السريع وتصاعد النقاش حول مستقبل بنية الدولة الأمنية.
ويُذكر أن الفريق صلاح قوش يُعد أحد الوجوه البارزة المحسوبة على الحركة الإسلامية السودانية، وارتبط اسمه منذ تسعينيات القرن الماضي بجماعة الإخوان المسلمين التي مثّلت المكوّن الفكري والسياسي الأبرز داخل نظام عمر البشير. فقد تولّى قوش أدواراً محورية في ترسيخ نفوذ الإسلاميين داخل أجهزة الدولة الأمنية، وكان من مهندسي التنسيق بين مؤسسات الحكم والسياسات الأمنية في تلك الحقبة.
ومع التغيّرات التي شهدها الإقليم منذ سقوط حكم البشير عام 2019، وجد قوش نفسه ومحيطه السياسي أمام موجة من التحولات والضغوط الدولية المتزايدة على تيارات الإسلام السياسي، خاصة بعد التراجع التنظيمي للإخوان في المنطقة. ويعتقد محللون أن ظهوره في القاهرة — رغم تجنّبه أي حديث حول الانتماءات الأيديولوجية — يحمل دلالات على محاولة إعادة التموقع ضمن مشهد إقليمي جديد يسعى فيه بعض رموز الإسلاميين السابقين إلى تقديم أنفسهم كقوى خبرة وطنية أكثر من كونهم تيارات عقائدية، في ظل بيئة دولية لا تزال تتعامل بحذر مع إرث الإسلام السياسي في السودان والمنطقة.
ويرى مراقبون أن ظهوره الأخير في القاهرة يحمل رسائل متعددة: أولها تطمينات للأوساط العسكرية والسياسية في الشمال، وثانيها تأكيد أن “الملف الأمني السوداني ما زال يحظى باهتمام من رجالات الدولة السابقين”، في وقت تتراجع فيه سلطة المؤسسات الرسمية داخل البلاد.
وفي ظل استمرار القتال، يبدو أن دعوة قوش للحفاظ على الاستقرار قد تلقى صدى واسعاً، لكنها قد تُقرأ أيضاً كمؤشر على تحركات أوسع لإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي السوداني من خارج الحدود، في وقت تبحث فيه القوى الداخلية عن معادلات جديدة للخروج من الحرب التي أنهكت البلاد.
