22.1 C
Khartoum

كلمة اليراع: البرهان وحميدتي والإسلاميون… رهان الإفلات من العقاب وفقدان الثقة الشعبية

Published:

تدخل الحرب السودانية عامها الثالث، وسط واقع إنساني مأسوي خلف دمارًا واسعًا في البنية التحتية ومقتل عشرات الآلاف، فيما نزح أكثر من 13 مليون شخص داخل وخارج السودان، بحسب تقديرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. ورغم عمق الكارثة، تظل جذورها السياسية والعسكرية ضاربة في تاريخ طويل من الصراع بين مراكز القوى في الدولة السودانية منذ عهد نظام البشير وحتى اليوم.

من دارفور إلى القيادة العامة: بدايات الجرح

بدأت ملامح الأزمة الراهنة منذ حرب دارفور التي شهدت جرائم تطهير عرقي واتهامات مباشرة لقيادات الجيش ومليشيات الجنجويد الخارجة عن السيطرة. كان اللواء عبد الفتاح البرهان وقتها يتولى قيادة سلاح المشاة في دارفور، ولعب دورًا محوريًا في تدريب وتسليح قوات الدعم السريع التي خرجت لاحقًا من رحم الجنجويد.

وبعد سقوط نظام البشير في ثورة ديسمبر 2019 الشعبية، انحاز البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) للثوار ظاهريًا، ليشكلا لاحقًا مجلس السيادة الانتقالي بالشراكة مع قوى الحرية والتغيير. ومع ذلك، أظهرت الأحداث اللاحقة أن العسكريين لم ينووا فعليًا تسليم السلطة لحكومة مدنية كاملة، ما جعل التحالف الانتقالي هشًا منذ البداية.

وفي يونيو 2019، ارتكب الجيش مدعومًا بقوات الدعم السريع وبتواطؤ من بقايا النظام الإسلامي مجزرة مروعة بحق المعتصمين أمام القيادة العامة في الخرطوم. قُتل مئات الشبان وتعرضت النساء لانتهاكات بشعة. ورغم إعلان البرهان وحميدتي تحقيقات لم تظهر نتائجها حتى اليوم، شكلت المجزرة نقطة سوداء في مسار الثورة، وعززت شعور السودانيين بانعدام العدالة وإفلات الجناة من العقاب.

انهيار الحكومة الانتقالية وانقلاب البرهان

تولت حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك المرحلة الانتقالية، محققة نجاحات اقتصادية ملموسة، لكنها واجهت هجمات متصاعدة من بقايا النظام البائد. تدخل البرهان وحميدتي في شؤونها بشكل متكرر، مما مهد لانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أطاح بالحكومة واعتقل قياداتها.

ورغم الضغط الشعبي والدولي ورفض الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الاعتراف بالانقلاب، أصر الجيش على فرض الأمر الواقع، لتدخل البلاد بعدها مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي والاقتصادي انتهت بانفجار الحرب المفتوحة في أبريل 2023.

من شراكة هشة إلى حرب شاملة

بدأت الحرب بين الجيش والدعم السريع بعد توقيع “الاتفاق الإطاري” الذي نص على خروج المكوّن العسكري من السياسة ودمج قوات الدعم السريع في الجيش. رفض حميدتي ذلك، واتهم البرهان بالسعي للبقاء في الحكم. سرعان ما تحولت الخلافات إلى معارك دامية في شوارع الخرطوم، امتدت إلى معظم ولايات السودان، لتسقط البلاد في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

القوى المدنية: تآكل الثقة وتشتت الموقف

عقب اندلاع الحرب، لجأت معظم القيادات المدنية، وعلى رأسها رموز قوى الحرية والتغيير، إلى الخارج. لكن ظهور بعض قياداتها في تحالفات ولقاءات مع حميدتي دعمًا لقواته أدى إلى فقدان ثقتها لدى الشارع الثوري الذي يرى أنها ساوت بين الضحية والجلاد. كما تفاقمت الانقسامات داخل صفوفها نتيجة الولاءات الجهوية والقبلية، ما جعل تأثيرها في الشأن الداخلي شبه معدوم.

الإسلاميون: عودة بوجوه قديمة وأساليب جديدة

منذ سقوط البشير، سعى الإسلاميون لعرقلة أي انتقال ديمقراطي حقيقي. عملوا على إشعال الخلاف بين الجيش والقوى المدنية، ثم انحازوا صراحة للبرهان في حربه ضد حميدتي. ورغم نفي الجيش المتكرر لوجودهم، تثبت الشواهد أنهم ظلوا يحركون الخيوط من وراء الستار، طامحين لاستعادة نفوذهم عبر بوابة الحرب. إلا أن عزلتهم الشعبية، والضغط الدولي لتجريم أنشطتهم، حدّا من قدرتهم على العودة العلنية إلى الساحة السياسية.

الجميع يخاف وقف الحرب

اليوم، تبدو مفارقة الأزمة السودانية في أن القوى المتحاربة جميعها تخاف من وقف الحرب: فالبرهان يخشى المحاسبة على الانقلاب والمجازر، وحميدتي يخاف العقوبة على جرائم قواته، والإسلاميون يدركون أن السلام الحقيقي يعني فتح ملفاتهم من جديد. في المقابل، يقف الشارع السوداني، المثقل بالموت والجوع، فاقدًا للثقة في كل القيادات القائمة.

الطريق إلى المستقبل

يبقى الأمل الوحيد في استعادة مسار التحول الديمقراطي الحقيقي مرهونًا بعودة القوى الشبابية التي فجّرت الثورة واستُبعدت من الحكم. وحدها تلك القوى غير المنخرطة في الفساد أو الدماء تملك الشرعية الأخلاقية لإعادة بناء السودان على أسس العدالة والمواطنة والمحاسبة. فبدونها، سيبقى البلد عالقًا في دوامة حرب يتغذى عليها من يراهنون على الإفلات من العقاب.

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة