منذ فجر اليوم الذي تساقطت فيه القذائف على أطراف الفاشر، تبدأ حكايات النزوح من شرق دارفور؛ نساء يحملن أطفالاً وأحلامهن المعلقة على ما تبقى من الحياة. بين حر الشمس ولهيب الطرق الموحشة، تتحرك الأقدام المثقلة بالتعب والأجنة، وبين خطوة وأخرى تسقط حياة جديدة قبل أن تولد.
“لم أكن أظن أنني قد أنجب طفلي في أرض غريبة، بلا غطاء ولا دفء”، تهمس إحدى الأمهات الجدد في معسكر طويلة، وهي تحتضن صغيرها الذي أبصر النور وسط خيام النازحين، وتضيف: “كان الطريق أطول من عمر أمومتي ذاته.”
وثقت شبكة أطباء السودان وصول أكثر من 100 امرأة حامل إلى معسكر طويلة وحده، فيما سجل مخيم الدبّة 143 حالة مماثلة. الإجهاض صار مألوفاً في ممرات المخيمات المزدحمة بالدموع والعجز، فالنساء أنهكهن السير مسافات طويلة تحت قسوة الظروف والحرمان من الرعاية.
لم تكن تلك الحالات مجرد أرقام، بل قصص لأمهات فقدن فلذات أكباد لم تدركهم الحياة، ولم تسعفهن خدمات إغاثية شحيحة تحاول أن تقاوم الموت بأيديها العارية.
رغم الجهود الكبيرة لمنظمات صحية في الميدان، إلا أن طوابير الأمل تطول والنقص في الموارد يزداد حدة. فرق الإغاثة الطبية تحول المخيمات إلى غرف طوارئ مفتوحة على وجع جديد كل ساعة، والمسعفون يناشدون: “أنقذوا الأمهات قبل أن تبتلع الرحلة المزيد من الأرواح”.
في جولة وصفتها النساء بـ”الاستماع إلى صدى الرعب”، زار وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر المخيمات، واستمع إلى روايات صادمة عن هجمات واغتصابات وجرائم ارتكبت بحق النساء، مؤكدًا أن دارفور أصبحت “مسرح جريمة” لم يشهد له مثيل.
فليتشر أعلن عن موافقة قوية من السلطات السودانية وقوات الدعم السريع للسماح بمرور آمن للمساعدات، مؤكدًا أن الأمم المتحدة ستضاعف وجودها الميداني وستضمن حياد المساعدات، قائلًا: “السودان لا يحتاج مزيدًا من البنادق، بل ملجأ ودواء وحماية للناجين.”
مع كل هذا الجهد، تظل الأمهات والفتيات في قلب دائرة الخطر في ظل انحسار الغذاء والدواء واستمرار توافد الموجوعين على المخيمات؛ أطفال يشكلون واحدًا من كل خمسة قتلى في الفاشر وحدها، وأحاديث عن فرص أخيرة في حال تدافعت الضمائر الدولية إلى صناديق النجدة قبل أن يحل الصمت مكان الصراخ.
بين الأمل والمحاسبة… نداءات لا تموت
مع تصاعد الانتهاكات بعد سقوط الفاشر في قبضة الدعم السريع أواخر أكتوبر 2025 وبعد حصار دام 18 شهرًا، غدت دارفور شاهدة على واحدة من أكبر موجات النزوح والمآسي في إفريقية القرن. فقدت النساء طعم الولادة في أمان، وصارت الأمومة عنوان المقاومة للصبر والدموع والانتظار.
ووسط مناشدات مستمرة لمحاسبة الجناة ومنع تدفق الأسلحة وضمان العدالة والحماية للمدنيين، يتردد صوت واحد في كل خيمة وشارع وذاكرة: “لا حاجة لمزيد من الرصاص… نحتاج إلى حضن آمن، ونافذة تطل على حياة من جديد”
