رغم الوعود الأخيرة لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” بوقف الانتهاكات في مدينة الفاشر، لا تزال الأنباء والتقارير الحقوقية تؤكد أن الممارسات الوحشية مستمرة، وأن آلاف المدنيين ما زالوا محتجزين في ظل ظروف إنسانية كارثية، وسط تعتيم إعلامي وحصار خانق يهدد حياة عشرات الآلاف من السكان.
مصادر ميدانية وعسكرية أكدت لليراع أن ميليشيات الدعم السريع تواصل عمليات القتل على أساس الهوية العرقية، رغم موجة الغضب الدولي والتنديد بما جرى في المدينة منذ الأسبوع الماضي. ووفق مراقبين، فإن تصريحات حميدتي حول التوقف عن العنف ومحاسبة المتورطين ليست سوى محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، خصوصاً أن مثل هذه الوعود تكررت في مدن أخرى شهدت جرائم مشابهة.
ويشير مراقبون إلى أن توقف مقاتلي الدعم السريع عن بث مقاطع الفيديو لجرائمهم ومنع السكان من مغادرة المدينة يهدف إلى التعتيم الكامل على ما يحدث داخل الفاشر.
تحذيرات دولية تتوالى:
مختبر البحوث الإنسانية بجامعة ييل الأمريكية نشر صوراً للأقمار الصناعية تظهر تجمعات ضخمة للنازحين في منطقة قرني شمال غرب الفاشر، وقال إن المنطقة تشهد “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”.
وكانت شبكة أطباء السودان قد أعلنت، الأحد، أن “قوات الدعم السريع” تحتجز آلاف المدنيين داخل المدينة وتمنعهم من المغادرة بعد أن صادرت جميع وسائل النقل. وحذّرت من كارثة إنسانية بسبب نقص الأدوية والكوادر الطبية، مشيرة إلى استمرار احتجاز بعض العاملين في المجال الطبي واختطاف آخرين.
الشبكة طالبت بالإفراج الفوري عن المدنيين وفتح ممرات آمنة لإجلائهم، إضافة إلى السماح للمنظمات الإنسانية بدفن الجثث المنتشرة في أطراف المدينة التي باتت تمثل خطراً بيئياً كبيراً.
شهود عيان تحدثوا عن أن نحو 500 مدني حاولوا الفرار الأحد الماضي مع جنود من الجيش، لكن معظمهم قُتلوا أو أُسروا على أيدي قوات الدعم السريع. كما أفاد بعض الناجين بأن الفارين فُصلوا على أساس الجنس والعمر والانتماء العرقي، وأن بعضهم أُطلق سراحه مقابل فدية مالية.
هيئة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أعلنت أن أكثر من 8 آلاف شخص نزحوا من المدينة خلال يومين فقط، في حين تجاوز العدد الإجمالي للنازحين 70 ألفاً منذ سيطرة الدعم السريع على الفاشر. إلا أن أغلبهم لم يتمكن من الوصول إلى مخيم طويلة، الواقع على بُعد 65 كيلومتراً، بسبب الطرق الخطرة والمطاردات المسلحة.
وصرّح مدير المجلس النرويجي للاجئين في السودان، شاشوات ساراف، قائلاً: “الأعداد التي تصل إلى المخيم لا تزال ضئيلة للغاية. من بقي داخل الفاشر يواجه صعوبة كبيرة في البقاء على قيد الحياة”.
مجازر وتكرار وعود:
في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر، وأعقب ذلك مجازر مروعة وعمليات نزوح واسعة. وبعد أيام، أقر حميدتي بوقوع “تجاوزات”، إلا أنه اكتفى بالحديث عن “لجان تحقيق”، وسط تشكيك واسع في جدية تلك الوعود.
نقابة أطباء السودان قالت في بيانها، الأربعاء الماضي، إن نحو 177 ألف مدني لا يزالون محاصرين داخل الفاشر. أما منظمة أطباء بلا حدود فأعربت عن خشيتها من مصير آلاف السكان الممنوعين من الخروج، في ظل تواصل القتال وانقطاع الاتصالات.
ويصف شهود العيان الأوضاع هناك بأنها جحيم مفتوح: ضرب بالهراوات، إهانات عنصرية، وإعدامات ميدانية على الهوية. وقال بعض من تمكّنوا من الفرار إن المسلحين كانوا يرددون عبارات عنصرية بينما يعتدون على المدنيين.
وفي تقرير صدر الخميس الماضي، أعلنت السلطات في إقليم دارفور أن أكثر من 2200 شخص قُتلوا في المدينة منذ سيطرة قوات الدعم السريع عليها، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، مشيرة إلى أن بعض الضحايا أُعدموا داخل المستشفيات والمساجد التي كانت تأوي الجرحى.
وحسب تقارير ميدانية، نزح أكثر من 390 ألف شخص من المدينة خلال الأيام القليلة الماضية، فيما لا يزال آخرون محتجزين أو مختطفين من قبل المسلحين، بعضهم يُستخدم كرهائن للمطالبة بفدية مالية أو لفرض “ضرائب” على ذويهم.
وبينما أعلنت قوات الدعم السريع الأحد الماضي السيطرة على مقر الفرقة السادسة مشاة التابع للجيش السوداني في الفاشر، يزداد الخوف من أن يتحول الوضع إلى مأساة ممتدة في ظل صراع دامٍ بدأ منذ أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، وأسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 13 مليون شخص داخل السودان وخارجه.
اليوم، باتت قوات الدعم السريع تسيطر على الولايات الخمس لإقليم دارفور، بينما يحتفظ الجيش بقبضته على 13 ولاية أخرى في الجنوب والشمال والشرق والوسط، بما فيها العاصمة الخرطوم، في مشهد يعكس تشظي السودان وانزلاقه نحو واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث.

