عبّر مجلس الأمن الدولي، مساء الخميس، عن “قلقه العميق” إزاء التصعيد المتفاقم في السودان، بينما كشف مسؤول العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة عن “تقارير موثوقة بشأن عمليات إعدام جماعية” ارتكبتها قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، عقب حصار دام ثمانية عشر شهراً.
وقال توم فليتشر، مسؤول العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة، إن المدينة “انزلقت إلى جحيم أكثر ظلاماً”، مضيفاً: “تُغتصَب النساء والفتيات، ويُشوَّه ويُقتل المدنيون في ظل إفلات تام من العقاب”. وأكد وجود “تقارير موثوقة عن إعدامات جماعية” نفذتها الميليشيا عقب اقتحامها المدينة.
من جهته، أعرب مجلس الأمن عن قلقه البالغ حيال تصاعد العنف في الفاشر ومحيطها، مندداً بـ”الفظائع المنسوبة إلى قوات الدعم السريع ضد المدنيين”، والتي شملت “إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية”.
في مدينة طويلة، الواقعة على بعد سبعين كيلومتراً غرب الفاشر، أكد عامل الإغاثة في منظمة “أليما” جون أوشيبي أن “الوضع في دارفور شهد تحوّلاً مأساوياً منذ الأحد”، بينما وصف المشهد الإنساني بأنه كارثي، إذ “تصل النساء والأطفال في حالة إنهاك شديد”.
وتطابق ذلك مع تقرير أصدره “مختبر الأبحاث الإنسانية” في جامعة ييل، مدعوماً بصور الأقمار الاصطناعية ومقاطع فيديو، أكد “استمرار المجازر خلال الساعات الـ48 التي تلت سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر”، مشيراً إلى إعدامات قرب عدد من المستشفيات، بينها المستشفى السعودي، ضمن “مسار منظّم لعمليات تطهير عرقي”.
ما زالت الاتصالات مقطوعة عن المدينة باستثناء شبكة “ستارلينك” التي تحتكرها قوات الدعم السريع، في حين يُمنع الوصول إلى الفاشر رغم الدعوات المتكررة لفتح ممرات إنسانية. وتشير الأمم المتحدة إلى نزوح أكثر من 36 ألف مدني منذ الأحد، فيما أصبحت مدينة طويلة التي تستضيف أكثر من 650 ألف نازح أكبر مركز استقبال في البلاد.
طريق مسدود وإنذار أممي
ترافقت مزاعم الانتهاكات مع انتشار واسع لمقاطع العنف على وسائل التواصل الاجتماعي. وحذرت الأمم المتحدة من أن الفاشر “في وضع حرج للغاية”، وسط تصاعد خطر “الفظائع ذات الدوافع الإثنية”. بدوره، ندّد الاتحاد الأوروبي بما وصفه بـ”وحشية قوات الدعم السريع” وبـ”الاستهداف الإثني للمدنيين”.
استهداف المستشفيات
أكد حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، أن الهجوم على المستشفى السعودي في الفاشر أسفر عن مقتل 460 شخصاً، فيما ذكرت منظمات طبية سودانية وشبكات ناشطين أن المئات قُتلوا داخل المستشفى وفي محيطه. ورغم صعوبة التحقق الميداني، كشفت منظمة الصحة العالمية عن اختطاف أربعة أطباء وممرضة وصيدلاني من المستشفى ذاته.
ونشرت جامعة ييل صوراً بالأقمار الاصطناعية تُظهر “مجموعات من الأجسام البيضاء محاطة ببقع حمراء” حول المستشفى في 28 أكتوبر، قالت إنها تتوافق مع “وجود رفات بشرية”. وتحدث شهود عن تعرض المستشفيات في الفاشر لهجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيّرة ومداهمات مسلحة، فيما كان الأطباء يعالجون الجرحى بحلول بدائية وسط نقص حاد في الإمدادات.
استهداف المساجد والتكايا
بعد استيلائها الكامل على الفاشر، باتت قوات الدعم السريع تسيطر على مجمل إقليم دارفور، الذي يشكل نحو ثلث مساحة السودان. ومع استمرار انقطاع الاتصالات والإنترنت، قالت مفوضة العون الإنساني منى الدائم إن أكثر من ألفي مدني “قُتلوا خلال اجتياح الميليشيا للمدينة”، مشيرة إلى أن عناصرها “استهدفوا المساجد والمتطوعين في التكايا والهلال الأحمر السوداني”.
تزامناً، أفادت “تنسيقية لجان المقاومة – الفاشر” بسماع إطلاق نار متقطع غرب المدينة. ووفق الأمم المتحدة، تجاوز عدد النازحين من المدينة نحو 36 ألفاً، معظمهم توجهوا نحو طويلة ذات الطاقة الاستيعابية شبه المنهارة.
جذور الإبادة وممارسات الجنجويد
تنحدر قوات الدعم السريع من ميليشيات الجنجويد التي استخدمها نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في مطلع الألفية ضد الحركات المتمردة في دارفور ذات الغالبية الإفريقية. وتورطت تلك الميليشيات في فظائع تطهير عرقي واغتصابات ونهب واسع، بموازاة حرق مدن وقرى بأكملها. وأكدت تقارير هيومن رايتس ووتش أن الدعم السريع ارتكبت “عنفاً جنسياً واسع النطاق وعمليات نهب، وتدميراً مقصوداً للقرى والمساعدات الإنسانية”، في حين أشارت محكمة العدل الدولية إلى وجود “أدلة على جرائم حرب” في السودان.
وحذّرت الخبيرة الأممية مارينا بيتر من أن ما يجري في الفاشر “يكرر أنماط الجرائم التي شهدناها في مناطق أخرى من السودان”، مشيرة إلى أن “جرائم الاغتصاب المنهجي، وحفر الخنادق لعزل المدينة، وتجويع السكان بشكل متعمد” تهدف جميعها إلى “تحطيم معنويات الخصوم عبر إذلال المدنيين”.
من جهته، وصف أرجان هيهنكامب من “لجنة الإنقاذ الدولية” الوضع في دارفور بأنه “جحيم حقيقي”، مؤكداً أن آلاف الفارين من الفاشر “يصلون وهم مصابون بصدمات نفسية حادة ولا يملكون سوى ملابسهم”، وأن مخيم طويلة “يفوق طاقته الاستيعابية بكثير”.
تمدد الحرب إلى شمال كردفان
حذّر توم فليتشر من انتقال العنف إلى ولاية شمال كردفان المجاورة، مشيراً إلى “قتال عنيف يتسبب بموجات نزوح جديدة”. كما أفادت المسؤولة الأممية مارثا أما أكيا بوبي بوقوع “فظائع واسعة النطاق ارتكبتها قوات الدعم السريع في مدينة بارا”، مؤكدة مقتل ما لا يقل عن خمسين مدنياً هناك.
وأشارت إلى أن هجمات الطائرات المسيّرة من الطرفين باتت تطال النيل الأزرق والخرطوم وسنار وجنوب كردفان وغرب دارفور، ما يعكس اتساع رقعة النزاع. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى “وقف فوري للأعمال الحربية”، محذراً من الانزلاق نحو انهيار شامل للدولة.
تزايدت التحذيرات من أن استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع يدفع السودان نحو الانهيار الكامل. وقالت مارينا بيتر إن “الخطر يقترب أكثر كل يوم”، فيما تتفاقم معاناة المدنيين بين المجازر والنزوح والجوع والحصار، في حرب لم يعد فيها أحد في مأمن.
المصدر: اليراع
