29 C
Khartoum

ألوان النوبة… العمارة و»مؤسسة الونسة» والجن في قبيلة نوبية

Published:

 محمد تركي الربيعو

تمتاز النوبة في مصر والسودان، بثراء ثقافي وإنساني فريد ترك بصماته على الأرض واللغة والعادات، ورغم عمق هذا الإرث، بقيت الدراسات التي تتناول الحياة النوبية محدودة، إذ انشغل كثير من الباحثين بتاريخ المدن الكبرى، وأهملوا الريف النوبي وما يختزنه من ذاكرة ومعنى. في هذا السياق يأتي كتاب «الونسة النوبية: العادات والتقاليد لقبيلة الكنوز النوبية» تأليف عبير محمود عبد الرحمن، الصادر عن دار الكنزي، محاولة جادة للغوص في تفاصيل الحياة اليومية داخل المجتمع النوبي، ولاسيما عند قبيلة الكنوز، التي تقطن أقصى شمال النوبة المصرية.
تسعى المؤلفة إلى رسم صورة داخلية للعالم النوبي من خلال تتبع طقوس الحياة اليومية و»طقوس العبور»، التي تتكرر في حياة الإنسان منذ ميلاده حتى وفاته، من زواج، وولادة، وختان وموت. كما تُفرد مساحة واسعة للحكايات الشعبية والأساطير، وللعلاقات الاجتماعية التي نسجت بنية هذا المجتمع عبر القرون. يشكّل البيت النوبي بألوانه نواة الحياة ومركزها في العالم النوبي. فالبيت الكنزي ليس مجرد مأوى، بل كيان معماري صُمّم بعناية ليتواءم مع المناخ القاسي في جنوب مصر. تمتاز هذه البيوت بقبابها الطينية العالية التي تخفّف من حرارة الصيف، وتحفظ البرودة في الداخل، وتقي من برد الشتاء. وكلما اقترب المنزل من النهر قلّ عدد القباب، وكلما اقترب من الجبل ازداد عددها، في انسجام دقيق بين العمارة والطبيعة.
وتُعدّ غرفة الكانون، أو المطبخ، قلب المنزل ومصدر دفئه اليومي. يُبنى الكانون من الطين النيء ويشبه أصيص الزرع المقلوب، وتستخدم النساء أواني الطين والحديد لتسوية الخبز، الذي يُعد جزءاً من الحياة اليومية وطقساً من طقوس الألفة. حتى أدوات العجن كـ»الماجور» لها طقوسها وأحجامها المخصصة، فيتداخل العملي بالرمزي في أبسط تفاصيل المطبخ النوبي.

طقوس العبور

تعتمد المؤلفة في تتبعها لليومي، على دراسة طقوس العبور ـ الولادة، الزواج، الموت ـ وهو أسلوب عادة ما يعتمده الباحثون الأنثروبولوجيون في دراسة حياة المجتمعات التقليدية. فمن خلال هذه الطقوس يمكن تتبع اليومي وتغيراته عبر الزمن. ويُعد الزواج من أهم مراحل هذه الحياة، إذ لا يُنظر إليه بوصفه ارتباط شخصين فحسب، بل حدثاً جماعياً تشترك فيه القرية كلها. تبدأ المفاوضات بين العائلتين، من دون مشاركة مباشرة من العروس، وفقاً للعادات القديمة، ويُحدد يوم الزفاف عادة مع موسم الحصاد، حين تتوافر الموارد. تُفضّل الليالي القمرية لإقامة الأعراس تفاؤلاً بالنور، وتُستبعد تماماً أيام رمضان.
تصف المؤلفة طقوس الدعوة إلى العرس، التي تقوم بها أم العريس عبر ما يسمى «الأوكجر»، حيث تجوب سيدات العائلة القرية وهنّ يحملن طبق «الكاريدج» المزخرف بسعف النخيل والعطور النوبية، فيتحول الإعلان عن الفرح إلى طقس عطري وجماعي في آنٍ واحد. أما العريس فيرتدي الحرير الأبيض ويحمل سيفه «السمكان» وخنجره «الكاندي» ويركب جمله مصحوباً بـ»الداشو» أو الوزير، الذي يلازمه كظله طوال الاحتفال. أما العروس فتدخل عالماً خاصاً من الزينة والتحضير. تبدأ استعداداتها بما يعرف بـ»دقة العطر البلدي» وهو طقس طويل تصنع فيه النساء «الخمرة» من الصندل والمحلب والمسك والعطور الفرنسية، في توليفة تمثل سر الجمال النوبي ورائحته المميزة. هذه العملية تستغرق أياماً من العمل الجماعي والفرح الأنثوي، وتتحول إلى مناسبة اجتماعية بحد ذاتها. في يوم الزفاف ترتدي العروس جلباباً أبيض مغطّى بشقة حريرية، وتتحلى بالذهب والمجوهرات النوبية، التي تتوارثها النساء عبر الأجيال. الذهب عند الكنوز ليس مجرد زينة، بل رمز عائلي وذاكرة متوارثة. وتظل العروس في حجرتها حتى يأتي موكب العريس وسط طقوس الزغاريد والأناشيد التي تشارك فيها كل نساء القرية.
بعد الزواج تنتقل المؤلفة إلى طقوس الولادة، التي تمثل لحظة مقدسة في الثقافة النوبية. تبدأ الاستعدادات بوضع الباذنجان قرب السيدة الحامل لطرد «المشاهرة»، وتُستدعى القابلة «مونسكر» عند اقتراب المخاض لتتلو آيات من القرآن حتى تتم الولادة بسلام. بعد الولادة تُدفن المشيمة بعناية قرب البيت، حمايةً للأم والطفل من الأرواح الشريرة. يُكحّل المولود بالكحل البلدي الممزوج بماء البصل لوقايته من الأمراض، ويُغذّى جسد الأم بأطعمة دسمة وسمن بلدي ودجاج ولحوم مطهوة في الطواجن، لضمان عافيتها وإدرار الحليب.
أما الختان فيأتي ثاني أهم الطقوس بعد الزواج، وله احتفالات ضخمة تتطلب استعدادات طويلة. يجتمع الناس من القرى المجاورة، وتُقام الولائم وتُذبح الذبائح. في اليوم الأول من الاحتفال، المسمى «باسم»، يتزين الطفل بملابس جديدة، وتبدأ الطبول بالعزف بعد صلاة الظهر. وفي اليوم التالي يُغطى الطفل بالحناء ويستحم في نهر النيل، الذي يحضر في كل المراحل بوصفه شاهداً ومقدساً في آن. بعد الختان تُقام الولائم وتُقدَّم الهدايا، ويتحول الحدث إلى احتفال جماعي بالحياة والتطهر والنمو.
يتوقف الكتاب أيضاً عند التعليم في النوبة القديمة، الذي بدأ في الكتاتيب المنتشرة في القرى، حيث كان الأطفال يتعلمون القرآن ومبادئ الكتابة والقراءة على يد «الفقهاء» القادمين من السودان. هؤلاء المشايخ اندمجوا لاحقاً في المجتمع النوبي وتزوجوا من أهله، فصاروا جزءاً من نسيجه الديني والثقافي.

مؤسسة الونسة :

يشكّل عالم الونسة قلب الكتاب ويمثل جوهر التواصل النوبي. والونسة في المجتمع النوبي، كما في العديد من المجتمعات القديمة، تعني المجالسة وزيارة الأصدقاء والأهل. وهي ليست مجرد حديث عابر، بل حوار روحي وتبادل وجداني بين أبناء القرية. يجتمع الناس مساءً بعد صلاة العشاء، في بيت امرأة مسنّة غالباً، تقص لهم قصصها وتجاربها وحكاياتها التي تتناقلها الأجيال. في الصيف تكون الونسة في الهواء الطلق، وفي الشتاء في الحوش السماوي. وتوجد أيضاً الونسة الصباحية الخاصة بالعجائز، التي تمتد حتى وقت الظهيرة قبل أن يشتد الحرّ. الونسة ليست ترفاً أو تسلية، بل مؤسسة شفوية تنقل المعرفة والذاكرة والخيال. عبرها تُروى الحكايات القديمة والأساطير، التي تشكل المخيال النوبي. فالراوية تبدأ حكايتها بعد غروب الشمس، إذ يُعتقد أن من يبدأ السرد قبل الغروب قد يُصاب بالعمى. ومع كل قصة، تُستعاد أحداث الماضي وتُستحضر أرواح الأسلاف. من بين أبرز موضوعات الحكايات النوبية الجن والعوالم الماورائية، التي تشكّل جانباً أساسياً من الموروث الروحي. يعتقد الكنوز أن الجن يسكن المناطق الصحراوية والجبلية الواقعة بين القرى، وأن بعض الجن وُجد في تلك الأرض منذ الحروب القديمة التي جرت هناك. تنتشر قصص كثيرة عن أشخاص صادفوا كائنات غريبة أو حيوانات ضخمة ليلاً، وعن رجال حاولوا ركوب حمار ليلاً، فإذا به يرتفع بهم في الهواء ليتبيّن أنه «جني صحراوي».
تتناول المؤلفة أيضاً الأساطير النسائية مثل قصة «بنات النهر» وهنّ كائنات يُعتقد أنهن يصعدن إلى سطح النيل عند الغروب، لذلك يُحرم على النساء النزول إلى النهر في ذلك الوقت وهنّ متزينات بالذهب، خوفاً من أن يخطفنهن. وثمة أسطورة أخرى تحكي عن «فاطمة السمحة والغول» وهي فتاة نوبية جميلة يطاردها مخلوق أسطوري لا يأكل إلا العظام البشرية في موسم فيضان النيل، في دلالة رمزية على العلاقة بين الإنسان والخطر الكامن في الطبيعة. أما أجمل الأساطير وأكثرها رمزية فهي أسطورة حورية البدر. تقول الحكاية إن ضوء القمر ما هو إلا انعكاس لنورها الخفي. هذه الأسطورة تمثل خلاصة المخيلة النوبية التي تمزج بين الطبيعة والأسطورة، وبين القمر والمرأة والحب في صورة واحدة.
من خلال هذا التنوع في الطقوس والأساطير، تكشف المؤلفة عن عمق النظرة النوبية للعالم، حيث يتداخل الواقعي بالرمزي، والطقس بالحكاية، والبيت بالكون. ويُظهر الكتاب أيضاً كيف حافظ النوبيون، رغم التهجير والتغيرات الحديثة، على تراثهم الشفوي ومفرداتهم الخاصة التي تمنحهم تفرّداً داخل النسيج المصري. فالعادات ليست مجرد بقايا من الماضي، بل آليات للبقاء الثقافي والهوية.

كاتب سوري لصحيفة القدس العربي

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة