الخرطوم – في الأحياء الطرفية بمدن الخرطوم الثلاث نصب تجار سودانيون طاولات خشبية بسيطة، وخياما من القماش، وأكشاكا من بقايا حديد وخشب لعرض السلع والبضائع لتظهر في العاصمة “أسواق مؤقتة” بديلة عن الأسواق الرئيسية التي دمرتها الحرب المتواصلة منذ عامين ونصف العام.
وخلال الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تعرضت الأسواق الرئيسية في العاصمة السودانية، ومن أبرزها سوق أم درمان الكبير والسوق العربي بمدينة الخرطوم وسوق سعد قشرة بالخرطوم بحري، لتدمير واسع، ما دفع التجار للانتقال إلى أطراف المدينة، لإقامة “أسواق الظل” أو “أسواق الأمل” كما يصفها السودانيون.
وتشهد هذه الأسواق، التي تعمل بلا كهرباء أو مخازن أو ميزان موثوق، انتعاشا كبيرا، حيث تتولى لجان أهلية مهمة إدارتها وتنظيمها.
ولا يتوفر إحصاء دقيق لعدد هذه الأسواق أو حجم التجارة فيها.
وفي منطقة جنوب الخرطوم يعتمد نحو 70 في المئة من سكان المنطقة على سوق مؤقت لتلبية الاحتياجات الأساسية.
وقال السوداني عبدالرحمن الطيب، وهو أحد مسؤولي اللجنة الأهلية لإدارة السوق المؤقت بجنوب الخرطوم، “بعد الدمار الذي طال الأسواق الرئيسية بالمنطقة، خاصة السوق المركزي، وجدنا أنفسنا أمام فراغ اقتصادي كامل، ولم يكن أمام التجار والمواطنين سوى البحث عن بديل قريب وآمن.”
وأضاف الطيب أن “فكرة هذه الأسواق بدأت بمبادرة أهلية خالصة، واعتمدنا على نظام اللجان الأهلية لتتولى مسؤولية الإدارة والتنظيم والنظافة وتوزيع المواقع.”
وتابع “لدينا تواصل وتنسيق مع الجهات الرسمية التي تمثلها محلية جنوب الحزام،” مؤكدا أن السوق المؤقت بجنوب الخرطوم يحظى بإقبال كبير.
وذكر الطيب أنه “يمكن القول إن 70 في المئة من سكان جنوب الخرطوم يعتمدون الآن على هذا السوق لتلبية احتياجاتهم اليومية.”
وتعمل السلطات الحكومية في الوقت الحالي على إعادة تأهيل السوق المركزي، وهو السوق الرئيسي لجنوب الخرطوم، بعدما تعرض لتدمير وتخريب طال أبرز محلاته التجارية.
وفي مدينة الخرطوم بحري ما زال سوق سعد قشرة مغلقا بعد تعرضه للتخريب واحتراق معظم المحلات التجارية، فيما بدأ سوق أم درمان الكبير، وهو أكبر سوق تاريخي في السودان، يعود تدريجيا لاستئناف نشاطه التجاري.
وفي العام الماضي اجتهد تجار سودانيون لإعادة تشغيل سوق أم درمان، أكبر أسواق الخرطوم، بعد دمار كامل بسبب الحرب في البلاد.
ولسوق أم درمان، الواقع في قلب المدينة، تاريخ طويل من النشاط التجاري لقرنين من الزمن، ضم فيهما مختلف أنواع التجارة، مثل الأقمشة والملبوسات والأحذية والمفروشات والذهب والتحف والأواني المنزلية والأدوات الكهربائية والكتب والأدوات المدرسية والأعشاب الطبية، وغيرها، حيث يضم آلاف المحال التجارية بعضها احتفظ بطرازه المعماري القديم والآخر مصمم بحداثة وتطور المعمار.
ويتوسط السوقَ اثنان من أبرز المعالم التاريخية في المدينة التاريخية، هما مسجد أم درمان الكبير، ومبنى البريد والبرق، ويجاور السوق 12 حيا من أحياء أم درمان القديمة والمرتبط بعضها بأحداث تاريخية مهمة، لاسيما حقبة الثورة المهدية (1885 – 1898) حيث اختيرت أم درمان عاصمة وطنية للسودان.
70 في المئة من سكان جنوب الخرطوم يعتمدون الآن على هذا السوق لتلبية احتياجاتهم اليومية
وللسوق قيمة اجتماعية، حيث عمل فيه تجار من غالب ولايات السودان، كما يعمل فيه تجار هنود وجنسيات أخرى، وظهر فيه تنوع ديني، حيث برز المسيحيون الأقباط مكوناً تجارياً أساسياً داخل السوق، وسبق أن عمل فيه في عقود ماضية اليهود والبوذيون، ويرتاده السياح لشراء المنتجات المحلية واحتساء القهوة في المقاهي التاريخية.
وتقدر الحركة التجارية في السوق قبل الحرب بنحو مليون دولار يوميا، وأثر توقفه على كل مدن السودان، وعلى بلدان مجاورة للسودان.
وكان بعض تجار الأواني المنزلية، وهم الأقدم في السوق حسب قولهم، قد قرروا تبني مبادرة لإعادة تأهيل محالهم التي يزيد عددها عن الألف، حتى يدشنوا نشاطهم التجاري ويشجعوا التجار في المجالات الأخرى على القيام بالشيء نفسه، كي يعود السوق لسيرته الأولى.
وترى السودانية أمينة محمد، وهي أرملة وأم لخمسة أطفال، في السوق المؤقت بجنوب الخرطوم “أكثر من مجرد مصدر رزق.”
وقالت “هذا السوق ليس مجرد مكان للبيع، بل مركز حياة اقتصادية صغيرة، النساء يفترشن الأرض لبيع الخضار والفواكه والبهارات، بينما يوزع الشباب المناديل وعبوات المياه على المارة، والأطفال يشاركون في البيع أحيانا.”
ويحاول التجار من خلال الأسواق المؤقتة استعادة النشاط التجاري في العاصمة، وفق التاجر جادالله أحمد سليمان.
وقال سليمان “خسرت كل شيء، لكن لا يمكنني أن أجلس مكتوف اليدين، فمن هذه الطاولات المهترئة سنبدأ حياتنا من جديد.”
فيما قال تاجر الخضروات والفواكه محمد أحمد بشير “إن كل قطعة من الخضروات أبيعها، وكل جنيه أكسبه، يمنحاني شعورا بأني ما زلت أملك شيئا في هذه المدينة التي فقدت كل شيء فيها.”
وأضاف “هذا السوق أعاد لي شيئا كنت أفتقده منذ اندلاع الحرب، إنه شعور الانتماء، فرغم الخراب الذي حل بالخرطوم، نحن نعيش مرة أخرى.”
بينما يرى الناشط الاجتماعي حسن علي أن هذه الأسواق تجربة صغيرة لاختبار قدرة المجتمع علي الصمود والتعاون.
وقال علي إن هذه الأسواق “قد تكون مؤقتة في شكلها، لكنها دائمة في معناها، فهي تجسيد لإصرار الناس على استعادة إيقاع الحياة، وإعادة تعريف الأمل في مدينة تتعلم من جديد كيف تبني مستقبلها.”
وتابع “إذا صمد الناس هنا، ستنهض المدينة بأكملها لاحقا، هذه الأسواق باتت الآن نموذجا حيا للتعافي.”
ويجسد الستيني الحاج عمر، الذي فقد متجرا كبيرا في السوق العربي بعدما التهمته النيران في أيام الحرب الأولى، صمود السودانيين، إذ يفرش بضاعته فوق طاولة خشبية صغيرة صنعها بنفسه.
وقال الحاج عمر وهو يجلس تحت مظلة من القماش البالي، بابتسامة يشوبها التعب، “المال مهم، لكن الأهم أن أشعر بأني ما زلت أساهم في حياتي وحياة أسرتي.”
وأضاف الرجل “كل حزمة بصل أبيعها، وكل زبون يمرّ، يعنيان لي انتصارا صغيرا على الخراب، السوق هو بيتي الثاني، فأصوات الموازين ونداءات الباعة تؤكد لنا أن الخرطوم تنهض من جديد.”
وواجهت الأسواق في المدن السودانية الآمنة عدة أزمات، منها الركود بسبب تآكل القوة الشرائية لانخفاض سعر الجنيه في مقابل العملات الأجنبية، وكذلك منع عبور المحاصيل الزراعية والمواشي إلى شمال البلاد من قبل قوات الدعم السريع.
وأسهم توقف الإنتاج في لجوء التجار إلى استيراد السلع من دول الجوار، خاصة مصر وإثيوبيا وجنوب السودان، عبر منافذ شمال البلاد وشرقها وجنوبها، لاسيما بعد فشل المصانع الجديدة بمدن بورتسودان وعطبرة وشندي في تغطية حاجة المستهلكين نظراً إلى أنها تستضيف مئات الآلاف من النازحين الفارين من ويلات الصراع المسلح بغرض الإقامة والعمل أو مواصلة الدراسة.
وعلى الرغم من انتشار عدة أسواق في المدن والمناطق التي تشهد نزاعات مسلحة، فإنها تعاني الشح المتنامي في السلع الغذائية والارتفاع الجنوني في أسعارها، إلى جانب شح السيولة النقدية وانحسار المتداول منها، ما ضاعف الضغوط المعيشية لسكان ولايات دارفور الخمس وأقاليم كردفان الثلاثة، فضلاً عن انخفاض أسعار المحاصيل وتراجع حركة البيع والشراء، إضافة إلى التأثير في قطاع النقل وعرقلة الأعمال التجارية.