37.6 C
Khartoum

بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب السودان قد دخل مرحلة الانهيار البطيء

Published:

الخرطوم – بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يبدو أن السودان قد دخل مرحلة الانهيار البطيء، حيث تتلاشى ملامح الدولة ويتآكل النسيج الاجتماعي، فيما تتقاطع على أرضه أجندات إقليمية ودولية تجعل السلام هدفا بعيد المنال.

وتحولت الحرب التي بدأت في أبريل 2023 كصراع على السلطة بين الجنرال عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مع مرور الوقت إلى حرب متعددة الأوجه: سياسية، واقتصادية، وعرقية، وحتى أيديولوجية، تضع السودان على حافة التفكك الكامل.

ورغم تعدد المبادرات، فإن الواقع الميداني لا يشير إلى أي مؤشر جدي على وقف القتال. فالعاصمة الخرطوم لا تزال مدمّرة في معظمها، ومدن بأكملها مثل ود مدني والجنينة ونيالا تحولت إلى ساحات قتال مفتوحة.

ولا يسيطر أي طرف سيطرة كاملة على الأرض، في حين يعاني المدنيون من انعدام الأمن، ونقص الغذاء والدواء، وغياب الخدمات. وتحولت المستشفيات التي لم تُدمّر إلى ملاجئ للنازحين، والمياه النظيفة باتت ترفا نادرا في معظم المناطق. ومع استمرار الحصار على المدن الكبرى، ازدادت الأمراض والأوبئة، خصوصا الكوليرا والملاريا وسوء التغذية بين الأطفال.

وتتعامل الأطراف المتحاربة بمنطق “الكل أو لا شيء”، فكل طرف يرفض التراجع خشية أن يُفسَّر ذلك ضعفا أو اعترافا بالهزيمة. ويرى الجيش نفسه حارس الدولة ومؤسساتها، بينما تصر قوات الدعم السريع على أنها تخوض حربا ضد “الدولة العميقة” والمركزية التاريخية التي همّشت الأطراف.

ويرى آلان بوسويل، مدير مشروع القرن الأفريقي في مؤسسة الأزمات الدولية، أن هذه الثنائية تجعل أي حوار سياسي ضربا من المستحيل، لأن جذور الصراع أعمق من مجرد تنافس على السلطة، إنها أزمة هوية وطنية تمتد منذ عقود، بين مركز يرى نفسه ممثلا للدولة، وأطراف تشعر بالتهميش والإقصاء.

◄ استمرار الحرب سيحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة للميليشيات العابرة للحدود وشبكات التهريب، كما حدث في ليبيا والصومال من قبل

وعلى الصعيد الدبلوماسي، غابت الرؤية الموحدة. فكل وسيط جاء إلى الطاولة بمشروع مختلف، وغالبا بدافع حسابات تخصه. ففي جدة، حاولت السعودية والولايات المتحدة إطلاق مسار تفاوضي لإنهاء القتال عبر وقف إطلاق النار الإنساني، لكن الخلافات بين الطرفين المتحاربين، وغياب آلية مراقبة فعالة، جعلا كل اتفاق يولد ميتا.

وأما مصر، فكانت رؤيتها تنطلق من ضرورة الحفاظ على وحدة الجيش ومؤسسات الدولة، خشية من أن يؤدي تفكك السودان إلى فوضى تمتد إلى حدودها الجنوبية. وفي المقابل لعبت إثيوبيا دورا مزدوجا بين الوساطة وحماية مصالحها الحدودية في الفشقة وسد النهضة.

وجعل هذا التعدد في المقاربات “الرباعية” التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات عاجزة عن توحيد جهودها. فبينما تميل واشنطن إلى ضغوط سياسية ودبلوماسية، تفضّل بعض العواصم العربية العمل وفق منطق النفوذ الميداني وتأمين مناطق محددة من البلاد.

وبذلك، أصبحت الوساطات المتكررة مجرد محاولات لإدارة الأزمة لا حلّها، ما منح الطرفين المتقاتلين المزيد من الوقت لإعادة التموضع وبناء التحالفات. وفي ظل هذا الفشل السياسي، تتدهور الأوضاع الإنسانية بوتيرة صادمة. فوفقا لتقديرات الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 25 مليون سوداني في حاجة ماسة إلى المساعدات، بينما تجاوز عدد النازحين داخليا أحد عشر مليونا، في أكبر أزمة نزوح يشهدها العالم حاليا.

وتحولت المدن التي كانت تعج بالحياة إلى أطلال، والمزارع التي كانت تغذي الملايين من الأسر أصبحت مناطق خطرة مليئة بالألغام. ومع انقطاع المساعدات الدولية بسبب انعدام الأمن، لجأ الكثير من السودانيين إلى النزوح نحو تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا، ما أحدث ضغطا إضافيا على دول الجوار التي تعاني بدورها من أزمات اقتصادية وأمنية.

ويحذر مراقبون من أن استمرار هذه الحرب سيحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة للميليشيات العابرة للحدود وشبكات التهريب، كما حدث في ليبيا والصومال من قبل.

ومع غياب الدولة المركزية، تنشط الجماعات المسلحة المحلية والقبلية في مناطق الذهب وطرق التجارة، وتتحول الموارد الطبيعية إلى مصدر تمويل للحرب. ويؤكد خبراء اقتصاديون أن تجارة الذهب غير الشرعية وحدها تموّل جزءا كبيرا من النزاع، إذ تُهرَّب الكميات عبر الحدود إلى أسواق خارجية، بينما تُستخدم عائداتها في شراء السلاح وتمويل المجهود الحربي.

وتشير تقارير ميدانية إلى أن مناطق دارفور، التي شهدت البعض من أعنف فصول الحرب، أصبحت الآن مقسمة عمليا بين مجموعات قبلية وميليشيات مختلفة الولاءات. ولم تعد الحرب في دارفور بين الجيش والدعم السريع فحسب، بل انزلقت إلى مواجهات عرقية طاحنة، خصوصا بين قبائل الزغاوة والمساليت والعرب.

وتجعل هذه الانقسامات أي حل سياسي شاملا أمرا شبه مستحيل من دون مصالحة مجتمعية واسعة، وهي عملية تحتاج إلى سنوات طويلة من إعادة بناء الثقة.

ويرى محللون أن المجتمع الدولي يتعامل مع الأزمة السودانية بمنطق رد الفعل لا الاستباق. فالدول الكبرى لا ترى في السودان سوى ملف أمني مرتبط بخطر الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر، بينما تغيب الإرادة الجدية في معالجة جذور الصراع. وحتى الأمم المتحدة نفسها تعاني من شلل مؤسسي بعد طرد بعثتها السياسية من الخرطوم، لتصبح قدرتها على التأثير محدودة للغاية.

◄الانقسامات تجعل أي حل سياسي شاملا أمرا شبه مستحيل من دون مصالحة مجتمعية واسعة، وهي عملية تحتاج إلى سنوات طويلة من إعادة بناء الثقة

واقتصاديا، يعيش السودان حالة انهيار تام. العملة فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها، والتضخم تجاوز 400 في المئة، والموارد الحيوية كالقمح والوقود أصبحت نادرة. كما أن القطاع الزراعي، الذي يمثل شريان الحياة في البلاد، تضرر بشكل غير مسبوق، مما ينذر بمجاعة واسعة النطاق.

وفي الوقت الذي يحاول فيه البنك المركزي الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي، تنهار الإيرادات العامة بسبب توقف الصادرات، خصوصا من الذهب والصمغ العربي والثروة الحيوانية.

ومع طول أمد الحرب، تتزايد المخاوف من تقسيم فعلي للبلاد. فمناطق شرق السودان بدأت تُظهر نزعات انفصالية، وغرب البلاد يدار فعليا من قبل جماعات محلية مستقلة. كما أن قوات الدعم السريع تسيطر على أجزاء واسعة من دارفور وكردفان، بينما يحتفظ الجيش بالمناطق الشمالية والشرقية، ما يعني أن السودان يتجه تدريجيا نحو نموذج شبيه بليبيا، حيث تتقاتل سلطتان متنازعتان لا سلطة لأيّ منهما على كامل التراب الوطني.

وتنعكس هذه الفوضى أيضا على ممرات التجارة الإقليمية. فالموانئ السودانية على البحر الأحمر أصبحت هدفا للتنافس الإقليمي بين قوى عربية وأفريقية، في حين فقدت مصر جزءا كبيرا من تجارتها البرية عبر الحدود الجنوبية، وأصبحت جيبوتي وإريتريا تتوجسان من تدفق السلاح والمقاتلين.

وهكذا، لم تعد الأزمة السودانية شأنا داخليا، بل باتت قضية أمن إقليمي بامتياز تهدد استقرار القرن الأفريقي بأسره. ووسط كل هذا المشهد القاتم، تتوالى المبادرات الدبلوماسية من دون جدوى. تُعقد الاجتماعات، وتصدر البيانات، ويُعاد التذكير بـ”ضرورة ضبط النفس” و”الحل السلمي”، بينما تستمر المدافع في دكّ المدن والقرى.

ولا يبدو أن هناك جهة قادرة على فرض وقف دائم لإطلاق النار، أو ضمان ممرات إنسانية آمنة لتقديم المساعدات. وحتى حين يُعلن عن اتفاق مؤقت، سرعان ما يُخرق في اليوم التالي، وكأن الأطراف تستمدّ شرعيتها من استمرار الحرب لا من نهايتها.

ولا يمكن أن يقرأ استمرار هذا الوضع إلا كفشل جماعي لكل من حمل راية الوساطة أو دعا إلى السلام. فالمجتمع الدولي يقف متفرجا، والإقليم غارق في تناقضاته، والقيادات السودانية عاجزة عن رؤية ما بعد الحرب.

وبينما يزداد الخراب، يظل الأمل ضئيلا بأن يولد من بين الركام صوت عاقل يدرك أن لا منتصر في هذه الحرب، وأن السودان، إن لم يُنقذ الآن، قد يختفي من خارطة الدولة الموحدة لعقود قادمة.

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة