من المقرر أن تنعقد محكمة خاصة في جنوب السودان يوم الأربعاء لبدء الاستماع إلى أدلة الادعاء ضد النائب الأول للرئيس ريك مشار، في محاكمة أثارت بالفعل جدلاً واسعاً وزادت من حدة التوترات السياسية في قلب الدولة الوليدة. المحكمة التي أقرت بأن لها ولاية قضائية في القضية، توجه لمشار وسبعة متهمين آخرين تهم القتل والخيانة وجرائم ضد الإنسانية، رغم اعتراض فريق دفاعه الذي اعتبر أن هذه المحكمة تفتقر للشرعية الدستورية.
رحلة ريك مشار السياسية ارتبطت دوماً بتاريخ جنوب السودان المضطرب. فبعد أن كان قائداً ميدانياً يقود تمرداً في الأحراش، أصبح مشار نائباً للرئيس سلفا كير عقب اتفاق السلام الموقع عام 2018، الذي سعى إلى إنهاء سنوات طويلة من الحرب الأهلية. غير أن هذا الاتفاق الهش تعرض مراراً للاختبار، وجاءت تقارير عن وضعه قيد الإقامة الجبرية ثم تقديمه للمحاكمة لتؤكد هشاشة التوازن بين أبرز خصمين سياسيين في البلاد.
تتهمه الحكومة بالتحريض على التمرد والسعي لإفشال الانتخابات المقبلة. وتشير السلطات إلى أنه قاد قوات “الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان – المعارضة” لشن هجمات على مواقع حكومية، في خطوة اعتُبرت تهديداً للاستقرار. وتستند أخطر التهم إلى أحداث مارس 2025، عندما اجتاحت ميليشيا “الجيش الأبيض” – التي تضم أساساً مقاتلين من قبيلة النوير المتحالفة مع مشار – حامية عسكرية حكومية، مما أدى إلى مقتل جنود ومدنيين. الادعاء يزعم أن مشار قاد تلك العمليات ويحمّله مسؤولية جرائم ضد الإنسانية.
تساؤلات حول النزاهة والشرعية
المحاكمة، التي بدأت في سبتمبر 2025، أُجلت أكثر من مرة. منظمات المجتمع المدني أعربت عن قلقها من القيود المفروضة على الصحفيين والمراقبين، وحذرت من أن غياب الشفافية قد يحول القضاء إلى أداة سياسية بيد السلطة. ويرى محللون أن المحاكمة أشبه بامتداد لصراع سياسي مزمن بين مشار وكير أكثر من كونها مسعى لتحقيق العدالة.
البعض يخشى أن تهدد المحاكمة استمرارية اتفاق السلام لعام 2018، إذ أنها قد تُبعد قاعدة مشار الشعبية وتدفع البلاد إلى جولة جديدة من الاقتتال الأهلي.
جذور قبلية وصراع تاريخي
تعود جذور الأزمة إلى التنافس بين الدينكا والنوير، أكبر جماعتين عرقيتين في جنوب السودان. الرئيس سلفا كير ينتمي إلى الدينكا، بينما ينتمي مشار إلى النوير. ويعود تاريخ صراعاتهما إلى قرون خلت لكنه استعر في تسعينيات القرن الماضي، حينما انقسمت صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان على خلفيات عسكرية وسياسية.
وبالرغم من تقاسمهما السلطة منذ سنوات، فإن الشكوك المتبادلة بينهما لم تتلاشَ. قوات موالية لكير استهدفت مراراً مناطق يقطنها النوير، وهو ما أدى إلى ردود مسلحة من جانب قوات محسوبة على مشار. ورغم أن الصراع يُقدَّم في كثير من الأحيان كصراع قبلي، إلا أن جوهره سياسي يرتبط بالسلطة وطبيعة الحكم.
مخاطر عودة الحرب الأهلية
يحذر مراقبون من أن المحاكمة قد تُشعل فتيل التوترات مرة أخرى، خصوصاً في ظل وجود ميليشيات مسلحة قوية مثل “الجيش الأبيض”. وإذا شعر أنصار مشار أن المحاكمة مسيّسة، فقد يندفعون للقتال، وهو ما يهدد بانزلاق البلاد إلى حرب واسعة جديدة.
أبعد من القبيلة: أزمة بناء الدولة
ويرى محللون أن الأزمة لا تقتصر على الهوية العرقية، بل هي انعكاس لفشل مؤسسات الدولة. فكلا الزعيمين – كير ومشار – نتاج عقود من الكفاح المسلح، لكنهما لم يتمكنا من التحول إلى قادة دولة مدنية مستقرة. غياب الحكم الرشيد والتنافس على الموارد والسلطة هو ما يدفع بالأحداث نحو الانفجار.
ومع وقوف مشار أمام القضاء، تبدو المحاكمة اختباراً حقيقياً لقدرة جنوب السودان على الموازنة بين العدالة والسلام. فالنتيجة قد تحدد مستقبل مشار السياسي، لكنها في الوقت ذاته تمثل مؤشراً على ما إذا كانت البلاد قادرة على النجاة كوطن موحد وسط واحدة من أعقد الأزمات التي عاشتها منذ استقلالها
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.