اليراع- في خطوة لافتة تكشف عن اتجاه جديد في مسار العلاقات الخارجية، وقّعت سلطة بورتسودان اتفاقية تعاون شاملة مع روسيا تستهدف إعادة بناء وتحديث منظومة النقل في السودان. وتشمل الاتفاقية تطوير السكك الحديدية والموانئ والمطارات والطيران المدني، إلى جانب تعزيز مجالات التجارة والتمويل، وإطلاق برامج تدريب متخصصة للبنك المركزي السوداني.
هذه الخطوة تعكس في جوهرها مساعي موسكو المتصاعدة نحو تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية، في وقت يزداد فيه التنافس الدولي على منطقة القرن الأفريقي بما لها من أهمية جيوسياسية واستراتيجية. خبراء الاقتصاد اعتبروا الاتفاق بمثابة تحول نوعي في توجهات السودان نحو الشرق، وبادرة تعزز انخراط روسيا كبديل محوري عن القوى الغربية التي ترتبط بتاريخ طويل من العقوبات والتجاذبات مع الخرطوم.
البعد الاستراتيجي للاتفاق
المراقبون يرون أن روسيا تهدف عبر هذه الشراكة إلى تثبيت حضورها الاقتصادي والاستراتيجي في السودان، في إطار خطة أوسع تشمل مجالات الطاقة، التعدين، التعاون العسكري، والشراكات المالية في أفريقيا. وفي المقابل، اعتبر مسؤولون روس الاتفاق جزءاً من جهد دبلوماسي واقتصادي موسع يهدف إلى توسيع دائرة الحضور الروسي في أفريقيا، مشيرين إلى أن الدعم الروسي قد يشكل رافعة مهمة لإعادة بناء القطاعات الأساسية في السودان، وفتح مسارات جديدة للتجارة التي تضررت بفعل سنوات النزاع الداخلي.
أما ممثلو السلطة السودانية في بورتسودان فقد وصفوا الاتفاقية بأنها تمثل دفعة قوية لجهود التنمية الوطنية، وخطوة مهمة على طريق الإنعاش الاقتصادي، خصوصاً في مجالات النقل واللوجستيات. وأكدوا أن هذه الشراكة تمهد لإحياء قطاع الطيران المدني، ومن شأنها أن تضع السودان في موقع محوري كمركز إقليمي للخدمات التجارية والعبور.
ولم يكن الاتفاق الحالي وليد اللحظة، بل امتداداً لمسار طويل من الحضور الروسي في السودان. ففي عام 2017، قدمت مجموعة “فاغنر”، المرتبطة بالكرملين، دعماً لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير. ورغم سقوط الأخير في 2019، استمرت أنشطة “فاغنر” داخل البلاد، وبرز دورها لاحقاً في دعم انقلاب 2021 الذي أسس لحكومة أكثر ميلاً نحو روسيا.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، تواترت تقارير عن تورط “فاغنر” في تقديم دعم عسكري ولوجستي لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، سواء عبر توريد أسلحة أو توفير تدريب، وهو ما نفته موسكو. هذه المعلومات أثارت قلقاً متزايداً لدى العواصم الغربية، التي اعتبرت أن أي دور روسي مباشر يزيد من مخاطر تفاقم الأزمة السودانية.
الذهب والقاعدة البحرية
إلى جانب الدور العسكري، يشكل الذهب السوداني أحد أهم محاور الاهتمام الروسي. فشركات مرتبطة بـ”فاغنر” مثل “مروي جولد” تدير عمليات واسعة في مجالي التعدين والتهريب، ساهمت في تمويل أنشطة المجموعة وتخفيف تداعيات العقوبات الدولية على روسيا.
المصالح الروسية في السودان لم تقف عند حدود الذهب، بل امتدت إلى البحر الأحمر. ففي ديسمبر الماضي، نقلت وكالة “بلومبيرغ” عن مصادر استخباراتية سودانية وغربية، أن مفاوضات متقدمة كانت تجري بين موسكو والجيش السوداني لإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان.
الاتفاقية المرتبطة بهذا المشروع تنص على إقامة منشأة بحرية روسية تستخدم لأغراض الصيانة والإمداد، قادرة على استضافة 300 فرد بين عسكريين ومدنيين، وعلى استقبال أربع قطع بحرية في آن واحد. هذه الخطوة وُوجهت برفض أميركي وأوروبي واسع، واعتُبرت تهديداً مباشراً للأمن الدولي وميزان القوى في البحر الأحمر.
السودان بين الارتهان والضرورة
السودان يمثل بالنسبة لروسيا مصدراً أساسياً للذهب، وركيزة استراتيجية لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في أفريقيا. ومع استمرار الحرب الداخلية، وجد الجيش السوداني نفسه أمام خيارات محدودة لتأمين المؤن والذخائر بعد استهداف الصناعات الدفاعية من قبل قوات الدعم السريع. وفي ظل غياب البدائل، بدت روسيا وحدها القادرة على تلبية هذه الاحتياجات الفورية والملحّة.
منذ العام 2000، أصبح السودان ثاني أكبر مستورد للأسلحة الروسية في أفريقيا. وتعتمد البنية التحتية العسكرية السودانية بكاملها تقريباً على المعدات والذخائر الشرقية، إضافة إلى أن سلاح الطيران السوداني أُسّس عبر تعاون طويل الأمد مع روسيا، الصين، وأوكرانيا.
في المقابل، ترى موسكو في السودان بوابة رئيسية لتنفيذ استراتيجيتها الأفريقية الرامية للتوسع العسكري والاقتصادي. فقد أشار معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أن نحو 49% من واردات السلاح الأفريقية بين عامي 2015 و2019 جاءت من روسيا، وكان السودان ممراً مهماً لنفوذها نحو أفريقيا الوسطى، والنيجر لاحقاً، ومناطق أخرى.
عودة السودان إلى الحضن الروسي تثير أسئلة جوهرية تتجاوز حدود الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية. فهي تعكس مزيجاً معقداً من الضرورة السودانية في ظل عزلة غربية خانقة، والطموح الروسي في ظل مواجهة مفتوحة مع الغرب على الساحة الدولية. وبين الحاجة إلى إعادة البناء، ورغبة روسيا في توسيع نفوذها، يجد السودان نفسه اليوم في قلب معادلة جديدة قد تعيد رسم خرائط النفوذ في القارة الأفريقية لسنوات قادمة.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.