في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي ويسيطر على كل شيء، ظهرت فكرة السينما الغامرة، كتحول جذري في طريقة عرض ومشاهدة الأفلام، من مجرد شاشة تعرض أمام الجمهور إلى تجربة متكاملة، يعيشها المتفرج بكامل حواسه، لا تكتفي فقط بالصوت والصورة، لكنها تجربة تغمر الجمهور بالرؤية المحيطية، والصوت المجسم، وكل أشكال التفاعل مع الحواس مثل الاهتزازات والرياح والروائح، ليصبح الجمهور جزءا من التجربة بعد أن كان مجرد متلق لما يعرض أمامه.
تعد شركة CJ 4DPLEX بالولايات المتحدة الأميركية أبرز شركات السينما الحسية، والتي تشمل صالات عرض فور دي إكس وسكرين إكس، وهي شاشات تعمل على توسعة الصورة لتمتد إلى الجدران الجانبية لقاعة العرض، وتستخدم المقاعد المتحركة والتأثيرات البيئية المختلفة مثل الرياح والضباب والروائح، عن طريق تجهيزات متخصصة، مثل الكراسي المتحركة ونفث الروائح، أو تغيير درجات الحرارة، بينما تدمج بعض الشركات تقنيات الذكاء الاصطناعي، لخلق تجربة تفاعلية تبعا لقرارات المشاهد.
أبرز تجارب السينما الغامرة
ظهرت في السنوات الأخيرة العديد من تجارب السينما الغامرة، من أهمها فيلم “البدلة الفضية لغاندام” 2024 الذي عرض بتقنية نظارات ميتا كويست “Meta Quest” التي تمنح المشاهد القدرة على اتخاذ القرارات عبر ما يعرف بالسرد المتفرع، حيث يشاهد كل شخص نسخته الخاصة من الفيلم داخل نظارته، ويختار مصير الشخصيات دون تأثر بما يراه الآخرون.
تلعب كذلك تقنيات الذكاء الاصطناعي دور أساسي في تخصيص التجربة، حيث يعدل السرد تبعا لردود أفعال المتفرج أو تعبيرات وجهه، بما يشبه سردا فرعيا، بحيث يقود كل مسار فردي إلى نهاية مختلفة تماما. أما في العروض الجماعية، تستخدم أدوات تحكم مخصصة أو بعض التطبيقات الإلكترونية التي تمكن كل متفرج من اختيار مسار خاص به داخل الفيلم، أو يحدث ما يشبه تصويت لتحديد تطور مسار الحبكة من الجمهور بالكامل، كما في فيلم “عالم ريبلي” In the Realm of Ripley الذي عرض بمهرجان فينيسيا السينمائي 2025، في تجربة جماهيرية جمعت بين الغموض والتفاعلية.
وفي تجربة سينمائية غامرة ضخمة، قدّمت صالة عرض “سفير لاس فيجاس” في أغسطس/آب الماضي عرضا تفاعليا بعنوان “ساحر أوز” حيث غمرت شاشات الليد الجمهور بالكامل، بالإضافة إلى المؤثرات الحسية مثل الروائح والرياح، مع دمج الجمهور في المشهد بالكامل كأنهم داخل الحكاية.
المخرج أم الذكاء الاصطناعي؟
بعد ظهور السينما الغامرة، بدأ جدل كبير حول فقدان السرد كأحد أهم عناصر العمل لصالح التجربة التفاعلية، التي تتعدد فيها الاستجابات وبالتالي مسارات السرد، أما عن دور المخرج في هذا السياق التفاعلي، فقد تحول من كونه الموجه الأول للسرد إلى مخرج يشرف على مسارات سردية متعددة، ولا يسيطر على كل نسخ العمل، لأنه في هذا النوع من السينما لم تعد هناك نسخة أصلية واحدة للفيلم مثل السينما التقليدية. ويعد فيلم باندرسناتش 2018 من أبرز أعمال السينما التفاعلية. الفيلم متفرع من سلسلة بلاك ميرور، مرتبط بها من حيث الأفكار، لكنه مستقل عن المسلسل. في الفيلم لا يوجد مسار واحد صحيح، لأن التجربة تتعلق بتعدد المسارات في الأساس.
امتد ذلك الجدل إلى كبار المخرجين الذين تباينت آراؤهم حول التجربة التفاعلية، منهم المخرج البريطاني كريستوفر نولان، الذي عبر عن إعجابه وحماسه لتجربة السينما الغامرة، قائلا إن مشاهدته فيلمه “دونكيرك” بصيغة آيماكس تشبه الواقع الافتراضي، لأن الغمر الصوتي والبصري له قدرة كبيرة على خلق تجربة حسية دون تكنولوجيا الواقع الافتراضي المعقدة. على الجانب الآخر يبدو المخرج مارتن سكورسيزي أكثر تحفظا تجاه هذا النوع، ويحذر من تحول السينما إلى مجرد “محتوى” ما يفرغها من عمقها الفني لصالح الإثارة الوقتية السريعة.
أما المخرج دينيس فيلنوف، صاحب فيلم “كثيب”، فقد عبّر عن تردّده تجاه ذلك النوع السينمائي، مشيرا إلى أن غمر الحواس لا يغني عن غمر الفكر، ويرى أن السينما يجب أن تثير خيال المتفرج، وأن التكنولوجيا ينبغي أن تبقى وسيلة لخدمة السرد، لا أن تتحول إلى غاية في حد ذاتها.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.