27.5 C
Khartoum

الدين العام الفرنسي “ببساطة”.. لماذا انفجرت الأزمة اليوم وما هي أسبابها؟

Published:

“الدين العام”، عنوان المرحلة الحالية في فرنسا، والسبب الرئيسي للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد والتي أدت إلى سقوط أربع حكومات خلال ثلاث سنوات فقط. فرنسا لم تبدأ بالاستدانة بالأمس، إذ كانت آخر ميزانية خالية من العجز في عام 1974، ومنذ ذلك الحين لجأت الحكومات المتعاقبة، سواء من اليمين أو اليسار، إلى الديون لتغطية عجزها. فكم يبلغ الدين العام الفرنسي اليوم؟ ما أسباب تراكمه؟ وما الذي استجد اليوم وأدى إلى انفجار الأزمة؟

بلغ الدين العام الفرنسي نحو 3.345 مليار يورو في الربع الأول من عام 2025، أي ما يعادل نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى بين الدول التي تعتمد اليورو كعملة لها. ورغم ضخامة هذا المبلغ، لم يكن يشكل مشكلة حتى قبل بضع سنوات، إلا أن الأمور قد تتغير بشكل كبير اليوم.

وقبل التطرق إلى أسباب الأزمة، من المهم توضيح أن الدين العام هو ببساطة سند تصدره الدولة يشتريه فاعلون اقتصاديون مثل البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار. يقرض هؤلاء الدولة المبلغ المطلوب مقابل فائدة سنوية. قد يبدو الأمر شبيها بالقرض العادي، لكن هناك فرق مهم: إذا اقترضت شخصيا لشراء منزل، ستسدد شهريا جزءا من المبلغ الأصلي مع الفائدة. أما الدولة، فتدفع فقط الفوائد سنويا، وتسدد المبلغ الأصلي دفعة واحدة عند انتهاء مدة السند.

وبشكل عملي، عندما يحين موعد استحقاق سند ما، تقوم الدولة بسداده عبر إصدار سندات جديدة، أي دين جديد يحل محل القديم، وهو ما يُعرف بـ”تجديد الدين”. باختصار، الدولة تسدد ديونها الحالية بالاقتراض من جديد.

العملية نفسها ليست “مؤلمة”، لكن ما يثقل كاهل الدولة هي الفوائد التي تدفعها على مدى السنوات، والتي تمثل العبء الحقيقي.

وبالتالي، تكمن المشكلة الحقيقية بتكلفة الدين سنويا، أكثر من مقدار الدين العام الإجمالي. وعلى مر العقود الأخيرة، انخفضت هذه الكلفة بشكل كبير، إذ أنه بالرغم من ارتفاع حجم الاقتراض، أصبحت الفوائد أقل. ففي عام 1990، كانت فرنسا تقترض لسندات بعشر سنوات بمعدل 10%، وفي 2000 انخفض المعدل إلى 5.7%، وفي 2010 إلى 2.5%.

وفي العقد الماضي، شهد العالم اضطرابات اقتصادية مهمة، ما جعل ديون الدول المعتبرة آمنة مثل فرنسا أو ألمانيا مطلوبة بشدة. وفي 2020، وصل معدل بعض السندات الفرنسية حتى إلى -0.2%، ما يعني أن الدولة كانت تُعيد أقل مما اقترضته. وبما أن الدولة تجدد دينها باستمرار، فإن الاقتراض الجديد بأسعار فائدة منخفضة يخفض عبء الفوائد تدريجيا.

وهكذا، كانت تكلفة الدين على الدولة 46 مليار يورو في 2011، لتنخفض إلى نصفها تقريبا في 2020، أي 24 مليار يورو.

لكن الدين العام ليس مسألة اقتصادية بحتة: فهو في المقام الأول مسألة سياسية تحدد كيفية إدارة الدولة لتمويل نفسها: فحين تنخفض أسعار الفوائد، تتجه الدول إلى الاقتراض بشكل أكبر.

لكن تزايد ديون الدولة، إلى جانب أزمة كوفيد والحرب في أوكرانيا وما أعقبها من عدم استقرار سياسي داخلي في فرنسا، جميعها عوامل ساهمت في زرع شعور بعدم الثقة لدى المستثمرين. وفي ظل هذه الأجواء، يميل المستثمرون إلى طلب فوائد أعلى لإقراض الدولة الفرنسية، أو تفضيل إقراض دول أخرى أكثر استقرارا.

وللمرة الأولى منذ عام 2011، ارتفعت فوائد السندات الفرنسية لأجل ثلاثين عامًا إلى نحو 4.5%، فيما بلغت فوائد السندات لأجل عشر سنوات حوالي 3.5%. وتتراوح كلفة الفوائد على الدين العام هذا العام بين 53 و67 مليار يورو، وهو مستوى تاريخي، يتخطى ميزانية جميع الوزارات باستثناء وزارة الدفاع.

وفي ظل هذه الظروف، قد تصل كلفة الدين إلى 72.3 مليار يورو بحلول عام 2027، أي بزيادة قدرها 85% مقارنة بعام 2023، وحوالي 100 مليار عام 2029 وفقا لبعض التقديرات.

لذلك، يسعى المسؤولون حاليا إلى إعداد موازنة تقلّص العجز، بهدف إعادة الثقة إلى الأسواق المالية، وهو ما يثير خلافات بين الأطراف السياسية حول سبل تحقيق ذلك: هل عبر تقليل الإنفاق، أم رفع الضرائب، أم خيارات أخرى؟ كما ذكرنا سابقا، المسألة هنا سياسية، وأحيانا أيديولوجية، قبل أن تكون اقتصادية.

وأخيراً، يجدر التنويه إلى أن العديد من الخبراء يعتبرون أن توظيف الدين في مشاريع بنية تحتية، أو في بناء مدارس ومستشفيات، على سبيل المثال، يمكن أن يكون له آثار إيجابية على المدى الطويل، إذ قد تعادل قيمة هذه الاستثمارات أو تتجاوز قيمة الدين نفسه. أما المشكلة فتظهر حين تُنفق الأموال المقترضة على مصاريف استهلاكية غير استثمارية، إذ يؤدي ذلك إلى تفاقم الأعباء المالية على المدى البعيد من دون مقابل لها.


اكتشاف المزيد من اليراع

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة