36.5 C
Khartoum

محاكمة في لندن تكشف انقسامات بريطانية: ما بين الخوف من المهاجرين وواجب حماية اللاجئين

Published:

لندن – تحقيق خاص
في صباح رمادي قرب محكمة بريطانية في لندن، وقف عشرات المتظاهرين على جانبي الطريق. البعض رفع لافتات غاضبة كُتب عليها “أوقفوا الفنادق للاجئين” و”أعيدوهم فوراً”، بينما على الجانب الآخر تجمّع نشطاء حقوقيون رافعين شعارات تقول إن “اللجوء حق إنساني”. كان المشهد أشبه بتجسيد حي لانقسام بات يهيمن على السياسة والمجتمع البريطاني.

سبب هذا الانقسام هو محاكمة طالب لجوء إثيوبي، متهم بالتحرش بفتاة مراهقة في إحدى الحدائق العامة المجاورة لفندق مخصّص لإيواء طالبي اللجوء. القضية بحد ذاتها عادية في سياق القضاء الجنائي، لكن توقيتها ظرفي وحساس، إذ تأتي في لحظة يحتدم فيها النقاش حول الهجرة، الأمن، والسؤال الأوسع: كيف تريد بريطانيا أن تبدو في وجه موجات جديدة من طالبي الحماية؟

تفاصيل القضية

الفتاة التي لم يُكشف عن هويتها قالت في شهادتها إنها كانت جالسة على مقعد بالحديقة حين اقترب منها المتهم. في البداية ظنت أنه جائع فأعطته بعض الطعام، لكن بعدها – بحسب روايتها للمحكمة – تصرف “بشكل غير لائق”، حاول دعوة الفتاة إلى الفندق رغم إخبارها له بأنها قاصر، ثم حاول تقبيلها.

المتهم أنكر كل التهم. فريق الدفاع يصر على أن ما حصل هو “سوء فهم”، وأن القصة كما رُويت “مبالغ فيها ولا تعكس الحقيقة”.

لكن بعيداً عن تفاصيل المرافعات، صارت القضية مادة دسمة في الإعلام والشارع، لأنها ارتبطت بصورة سياسية حساسة: فنادق اللجوء.

فنادق تتحول إلى بؤر جدل

منذ سنوات، لجأت الحكومة البريطانية إلى حل مؤقت لإيواء آلاف طالبي اللجوء الذين يصلون عبر القناة الإنجليزية: الفنادق المهجورة أو قليلة النزلاء.

لكن هذه السياسة فجّرت غضب مجتمعات محلية، خصوصاً في بلدات صغيرة حيث يُنظر إلى وجود عشرات أو مئات اللاجئين كعبء على البنية التحتية والخدمات العامة. بعض السكان يشتكون من أنّ مدارسهم مكتظة، والمستشفيات تتأخر في المواعيد، وأن الحكومة اتخذت قرارات فوق رؤوسهم دون أي تشاور.

هذا الغضب انفجر في سلسلة احتجاجات، بعضها سلمي، وبعضها تحوّل إلى اشتباكات مع الشرطة. قضية الشاب الإثيوبي جاءت لتصب الزيت على النار.

ورقة سياسية بامتياز

الأحزاب الشعبوية اليمينية لم تتردد في توظيف القضية. قادة كحزب إصلاح بريطانيا طالبوا بترحيل فوري “لأي طالب لجوء يتورط في جريمة”، مع تشديد القوانين بحيث تُلغى حقوق الاستئناف على قرارات الترحيل.

أما حزب المحافظين الحاكم فهو في وضع حرج: من جهة يريد تهدئة المخاوف الشعبية ومن جهة أخرى يخشى اتهامه بتأجيج الكراهية. المسؤولون الحكوميون يقولون إن على الشعب أن يثق في النظام القضائي، لكنهم في الوقت نفسه يلمّحون إلى إصلاحات جديدة للحد من بقاء طالبي اللجوء لفترات طويلة قيد الانتظار.

المعارضة العمالية تهاجم الحكومة من زاوية أخرى، معتبرة أن “إيواء طالبي اللجوء في فنادق هو وصفة للتوتر والمشاكل”، وأنه لا يليق بدولة مثل بريطانيا أن تترك هؤلاء الأشخاص في عزلة قسرية، دون حق في العمل أو الاندماج.

أصوات من الشارع

في مدينة ساحلية صغيرة تحتضن أحد فنادق اللجوء، التقت مجلة التحقيق بـ ديانا هاريس، وهي أم لطفلين. تقول بغضب:
“لسنا عنصريين. لكن لماذا يجب أن يتحمل أبنائي تبعات أزمة هجرة عالمية؟ مدرستهم مزدحمة، والطبيب العائلي بالكاد نستطيع زيارته. ثم نسمع عن جرائم منسوبة لبعض هؤلاء الناس… كيف لا نقلق؟”

وفي المقابل، يرد محمد ع.، طالب لجوء سوري يبلغ من العمر 29 عاماً يسكن نفس الفندق:
“لم نأت لخطف وظائفكم أو تهديد أطفالكم. جئت لأن قريتي دمرت في الحرب. أجلس هنا منذ 18 شهراً بلا حق عمل، بلا أمل، فقط أنتظر. كثير من البريطانيين لا يعرفون عنا إلا ما تقوله الصحف.”

الجدل الإنساني والأمني

القضية أعادت إحياء سؤال قديم: هل يجب النظر إلى طالبي اللجوء باعتبارهم خطر أمني محتمل أم باعتبارهم ضحايا يبحثون عن أمان؟

المنظمات الحقوقية حذرت من خطورة تحويل قضايا فردية إلى ذريعة للتعميم. منظمة “العدل للاجئين” أصدرت بياناً جاء فيه:
“عدالة المحكمة مهمة، لكن لا يجوز الحديث عن اللاجئين ككتلة مسؤولة جماعياً عن أي جريمة فردية.”

لكن مع تزايد حوادث فردية مشابهة في الإعلام، يبدو أن الرأي العام يتجه أكثر نحو التشدد، وهو ما تستشعره الأحزاب السياسية.

المستقبل المجهول

واضح أن الحكم في هذه القضية – أيّاً كانت نتيجته – لن يضع حداً للانقسام. بريطانيا تجد نفسها أمام خيارات صعبة: هل تمنح طالبي اللجوء مسار اندماج أسرع لتخفيف التوتر، أم تشدد القوانين أكثر في محاولة لردع القادمين الجدد؟

الإجابة ستحدد ليس فقط سياسة الهجرة، بل صورة بريطانيا أمام العالم: هل ستبقى تلك الدولة التي طالما تباهت بتاريخها في استقبال اللاجئين من أوروبا الشرقية وأفريقيا والشرق الأوسط؟ أم تتحول إلى حصن مشدد الأبواب في زمن صعود القوميات والشعبوية؟

في ردهات المحكمة بلندن، لا يزال القضاة يستمعون للشهادات والأدلة. لكن خارج الجدران، معركة أخرى تدور: معركة هوية ومستقبل وطن في مواجهة واحدة من أكثر الأزمات إلحاحاً في زمننا.

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة