“ثوب الكرب الجابوه النقادة يا سيد الناس أنا عاشقك زيادة”، هكذا عبّر أحد الشعراء السودانيين عن محبته، مشبّها عشقه للمحبوبة بعشقه لثوب الكِرِب، لما يحمله من جمال ودقة وإتقان، لكونه يُنسج يدويا بعناية تعكس عمق التراث السوداني وروعة صناعته.
يعود تاريخ ثوب الكِرِب إلى أكثر من 100 عام، ويُنسج يدويا بالكامل باستخدام مشاغل خشبية تقليدية، في عملية تبرز مهارة أنامل مبدعة وفنا تراثيا يواجه خطر الاندثار. تبدأ مراحل التصنيع بإعداد خيوط القطن يدويا، وهي خطوة أساسية تُعد المدخل الرئيسي لهذه الحرفة التي يتقنها من يُعرفون باسم “النقادة”.
ويرتبط اسم النقادة بمنطقة نقادة في صعيد مصر، حيث تعود أصول هؤلاء الحرفيين الذين وفدوا إلى السودان منذ عام 1900، واستقر بعضهم في مدينة شندي شمال العاصمة الخرطوم. وينتمي معظمهم إلى الطائفة المسيحية، وقد أصبحوا جزءا من النسيج المجتمعي في المدينة، وحصل العديد منهم على الجنسية السودانية.
وبحسب شهادات أفراد من هذه الطائفة تحدثوا للجزيرة نت، فإن التعايش مع المجتمع المسلم في شندي يسوده الود والاحترام المتبادل، دون أن تُسجل حوادث اضطهاد ديني تُذكر، مما يعكس استقرار علاقة تاريخية امتدت لأكثر من قرن.
مهنة متوارثة
في غرفة متواضعة في منزل راتب حنا سعيد يعمل أحمد رحمة الله أحمد منذ أكثر من 40 عاما على المشغل اليدوي الذي ينتج أقمشة الجلابيب الرجالية والثياب النسائية بمختلف أنواعها.
يقول أحمد للجزيرة نت إن “المهنة أصبحت جزءا من حياته ولا يستطيع تركها لأنه ورثها عن والده وأجداده، ويجد متعة كبيرة في العمل الذي يعتبره عملية فنية تحتاج إلى صبر وتجويد”.
يضيف أحمد “ظللت أعمل مع هذه الأسرة منذ الستينيات من القرن الماضي، وحتى الآن ولم يحدث بيننا أي خلاف، على الرغم من أني مسلم وهم مسيحيون، لا يوجد بيننا سوى المحبة والاحترام، يشاركوني في أفراح وأتراح الأسرة وأنا أفعل نفس الشيء”.
مهنة صامدة
يؤيد راتب حنا سعيد، صاحب أحد المشاغل اليدوية، ما أكده الحرفي أحمد بشأن التعايش، ويشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن جميع جيرانه من المسلمين، ولم يواجه أي مشكلات معهم منذ أن قدم جده من صعيد مصر إلى مدينة شندي في عام 1922.
ويضيف سعيد أن مشغله ظل يعمل بشكل متواصل منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد ورث هذه المهنة عن والده، ولا يزال متمسكا بها حتى اليوم. ويقول مازحا “تعودت أذني على صوت المشغل في المنزل، أصحو وأستيقظ على صوته”.
ورغم التراجع الذي شهدته الحرفة في السنوات الأخيرة، يؤكد سعيد أن المهنة ما زالت صامدة في المدينة، رغم إغلاق أكثر من 40 مشغلا بسبب انخفاض عدد الزبائن. ومع ذلك، يوضح أن الإنتاج لا يزال مطلوبا، مشيرا إلى أن الزبائن يأتون مباشرة إلى المشغل داخل المنزل، دون حاجة إلى عرض المنتجات في المحال التجارية.
أسر منتجة
تشارك إخلاص عدلي، زوجة راتب حنا، زوجها في نفس المهنة، حيث تعمل إلى جانبه في المشغل العائلي، في نموذج يعكس طبيعة أسر النقادة في مدينة شندي، المعروفة بإنتاجها وتعاون أفرادها جميعا في مواجهة متطلبات الحياة اليومية.
وقد حظيت إخلاص بتكريم رسمي سابقا من الدولة بصفتها “ربة منزل منتجة”، تقديرا لمساهمتها العملية والمجتمعية. وفي حديثها للجزيرة نت، تقول إنها بدأت العمل في هذه الحرفة بدافع المشاركة في تحمل أعباء المعيشة، مشيرة إلى أنها ورثت المهنة عن والديها، اللذين مارساها منذ عام 1953 وحتى وفاتهما.
وتوضح إخلاص أنها لم تكتف بالحفاظ على الحرفة التقليدية، بل عملت على تطويرها وتحديثها، حيث أدخلت تصاميم جديدة تتماشى مع الذوق العصري، مثل أقمشة الثياب النسائية المصنوعة من خامات متنوعة، إلى جانب الجلابيب، الشالات الرجالية، وثياب العرسان. كما شاركت في عدد من المعارض المحلية، ونالت جوائز وشهادات تقديرية نظير جهودها في الحفاظ على هذا التراث وتحديثه.
العمل في المشغل بالنسبة لإخلاص أكثر من عمليات إنتاج وبيع وشراء وإنما يمثل لها “الهواء الذي تتنفسه”، لأنها ترى أن مواصلة العمل وتطويره فيه إحياء ووفاء لوالديها اللذين غادرا الدنيا.
زبائن من الخارج
نصرة فؤاد تعمل بالمهنة منذ كان عمرها 17 عاما وظلت تعمل لمدة 35 عاما، وتقول للجزيرة نت إن حبها للمهنة جعلها تغادر المدرسة منذ وقت مبكر للتفرغ لها، وتشير إلى أن لديها زبائن من خارج السودان من دول مثل ألمانيا وأميركا وكندا وعدد آخر من الدول الأوربية، وترى أن النِساجة اليدوية رغم تراجع الزبائن ستحافظ على مكانتها لجودة المنتج كما أنها مهنة تراثية ولها زبائن من داخل وخارج السودان.
ورغم تطور صناعة الثياب والأقمشة عبر الآلات والماكينات الحديثة، تظل مهنة النساجة اليدوية محافظة على البقاء وتراثا يتحدى الحداثة.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.