أبدت مصر موقفًا واضحًا في دعمها للمؤسسة العسكرية السودانية في حربها ضد قوات الدعم السريع، مع رفضها القاطع لأي محاولة لعودة الإسلاميين إلى السلطة، وهو ما تجلى مؤخرًا في توقيف قائد كتيبة البراء بن مالك، المصباح أبوزيد طلحة، أثناء زيارته إلى مدينة الإسكندرية، حيث قام بأنشطة اعتُبرت مخالفة للأسباب الأسرية والطبية التي دخل بموجبها البلاد. هذا التوقيف، الذي لم تعلن القاهرة رسميًا عن أسبابه، اعتُبر رسالة سياسية تعكس قلقًا مصريًا متزايدًا من تنامي نفوذ التيارات الإسلامية في السودان، خاصة تلك المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين.
المصباح، الذي يُعد من أبرز رموز التيار الإسلامي في السودان، ويقود ميليشيا عقائدية شاركت في القتال إلى جانب الجيش السوداني في مناطق الخرطوم وأم درمان والجزيرة، كان قد بدأ في تحويل نشاط كتيبته من العمل العسكري إلى النشاط المدني، ما أثار مخاوف من أن هذا التحول قد يمنحها نفوذًا داخل مؤسسات الدولة، ويمهد الطريق أمام الإسلاميين للعودة إلى المشهد السياسي. وقد أشار موقع “سودن تربيون” إلى أن مصير المصباح لا يزال غامضًا بعد اعتقاله من مقر إقامته بالإسكندرية، في وقت أجرى فيه مسؤول رفيع بمجلس السيادة السوداني اتصالات مع السلطات المصرية لاستجلاء أسباب التوقيف والعمل على الإفراج عنه.
مصادر سودانية أفادت بأن المصباح شارك في لقاءات سياسية ودينية مع سودانيين داخل مصر، متجاوزًا بذلك حدود الضيافة، ومارس نشاطًا يتعارض مع موقف القاهرة الرافض لأي دور سياسي لجماعات عقائدية، خاصة تلك المحسوبة على الإخوان المسلمين. كما كشفت المصادر ذاتها أن المصباح سبق أن تم توقيفه في السعودية خلال يونيو 2024، بعد أن قام بأنشطة سياسية أثناء أدائه مناسك العمرة، وتم ترحيله بهدوء إلى السودان.
موقف مصر من الإسلاميين في السودان يأتي في سياق رؤيتها الإقليمية الرافضة لعودة جماعة الإخوان إلى السلطة، وهي رؤية تستند إلى تجارب سابقة دفعت القاهرة إلى اتخاذ مواقف حاسمة ضد أي تشكيلات عقائدية تسعى إلى النفوذ السياسي. ويُنظر إلى كتيبة البراء بن مالك باعتبارها امتدادًا لقوات الدفاع الشعبي التي أنشأها نظام الرئيس السابق عمر البشير لدعم الجيش في حربه ضد جنوب السودان، وقد أثارت مشاركتها في القتال إلى جانب الجيش مخاوف من تعقيد المشهد العسكري والسياسي، خاصة بعد تبنيها خطابًا شعبويًا غذّى الانقسام الداخلي.
تحليل سياسي قدمه عادل سيد أحمد أشار إلى أن قائد كتيبة البراء يتستر خلف غطاء ميليشياوي محسوب على الحزب الحاكم سابقًا، وأن مصر تعاملت مع وجوده في أراضيها من منطلق إنساني، لكنها تنتظر التزامًا واضحًا من السودانيين تجاه الدولة المضيفة. وأكد أن تحركات الكتيبة غير مرغوب فيها من جانب مصر وعدد من القوى الإقليمية والدولية، خاصة أن المصباح استخدم مفردات الحرب خلال زيارته للإسكندرية، في وقت تتبنى فيه القاهرة موقفًا داعيًا إلى وقف الحرب والحفاظ على وحدة السودان ومؤسساته.
المكون العسكري الميليشياوي الذي تمثله كتيبة البراء لا يبدو منسجمًا مع قيادة الجيش السوداني، إذ يطلق شعارات تعبوية توحي بوجود انقسام داخل المؤسسة العسكرية، وهو ما دفع مصر إلى اتخاذ موقف حازم تجاه أي دور محتمل لهذه الجماعات. وقد أعلنت الكتيبة في يوليو الماضي تخليها عن العمل العسكري وتحولها إلى النشاط المدني والخدمي، بعد أن شاركت في عملية استعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم من قوات الدعم السريع، ونشرت تصريحات لقائدها المصباح أبوزيد حول تأسيس هيئة الإسناد المدني “سند”، في وقت لا تزال فيه المعارك مستمرة في دارفور وكردفان.
هذا التحول جاء بعد تسعة أيام من قرار قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 18 يوليو، الذي قضى بإخلاء الخرطوم من الكيانات المسلحة خلال أسبوعين، وهو قرار فُهم على أنه يستهدف كتيبة البراء التي بدت وكأنها جيش موازٍ داخل الجيش. وقد وجّه البرهان انتقادات للكتيبة بسبب نشرها فيديوهات توحي بانتصارات مستقلة عن الجيش، ما أثار تساؤلات حول مدى انضباطها ضمن القيادة العسكرية الرسمية.
التحول إلى العمل السياسي دون انصياع لقيادة الجيش يُعد من أبرز المخاطر التي تواجه المؤسسة العسكرية، خاصة أن الخرطوم تمثل المعركة الأخيرة للبراء في السودان، ومحاولة تنظيم صفوف القوى الإسلامية للانقضاض على السلطة قد تخلق واقعًا سياسيًا جديدًا يفرض على الجيش القبول به، ما يهدد بتفكك داخلي ويزيد من الضغوط الخارجية على القيادة العسكرية، في ظل اتهامات بالتحالف مع قوى إسلامية، وتهيئة الأجواء لعودة رموز النظام السابق عبر عملية انتخابية يجري التحضير لها.
تصريحات رئيس حزب المؤتمر الوطني المنحل أحمد هارون أكدت أن الانتخابات المقبلة قد تفتح الطريق أمام الحركة الإسلامية للعودة إلى الحكم، مشددًا على تمسك الإسلاميين بتحالف إستراتيجي مع الجيش بعد انتهاء الحرب. ويمكن قراءة توقيف المصباح في مصر ضمن هذا السياق، حيث ترى القاهرة أن دعمها للجيش السوداني مشروط بعدم السماح باستخدامه كوسيلة لعودة الإسلاميين إلى السلطة، وضرورة إنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة، وعلى رأسها كتيبة البراء بن مالك.
مصر وجهت إنذارًا مبكرًا قبل عودة الحكومة السودانية إلى العمل من الخرطوم، محذرة من التهاون مع الترتيبات التي تعتزم كتيبة البراء تنفيذها، والتي تمنحها دورًا مدنيًا دون خضوع عناصرها العسكرية لقيادة الجيش، خاصة بعد أن تحدّت أحد قادته وطالبته بالمواجهة في الميدان، ما يعكس امتلاكها لقوة عسكرية كبيرة قد تشكل تهديدًا لبنية الدولة السودانية.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.