في شمال السودان، تلتقي رمال الصحراء الذهبية بتاريخ الحضارة النوبية العريقة، وتتدفق ينابيع “حمامات عكاشة” الحارة، حاملةً معها إرثاً حضارياً فريداً يمتد لآلاف السنين.
ليست مجرد مياه دافئة تنبع من باطن الأرض، بل هي ذاكرة حية تربط الحاضر بعهد مملكة نبتة والملك النوبي “كاشتا” ووجهة نادرة تجمع بين القيمة التاريخية، والجاذبية السياحية، والفوائد العلاجية التي لم تُكتشف أسرارها بالكامل بعد.
ورغم التحديات التي واجهتها، من كوارث طبيعية أغرقتها لسنوات إلى نقص في الموارد أبعدها عن دائرة الضوء، حافظت “حمامات عكاشة” على وجودها بفضل إصرار المجتمع المحلي، الذي تجسد في مبادرات شبابية وتنموية أعادت تأهيل الموقع، في سعي دؤوب لتحويل هذا الكنز المنسي إلى وجهة سياحية وعلاجية متكاملة تليق بقيمته.
ملاذ الشفاء في قلب الصحراء
تقع “حمامات عكاشة” في محلية دلقو، بالقرب من مدينة عبري في الولاية الشمالية، على بعد نحو 775 كيلومترًا شمال العاصمة الخرطوم. وهناك، وسط تلال وسهول الحوض النوبي، تنبع المياه الحارة طبيعياً من أعماق المرتفعات الغربية، متدفقة بدرجات حرارة تتراوح بين 38 و45 درجة مئوية. وتكمن قيمة هذه الينابيع في تركيبتها الغنية بالكبريت والأملاح، التي تمنحها خصائص علاجية فريدة.
وحسب مختصين في العلاج الطبيعي، تعد هذه الحمامات ملاذاً فعالاً لعلاج الالتهابات المفصلية المزمنة، والروماتيزم، وارتخاء العضلات. كما تساهم في التخفيف من أمراض جلدية مثل الأكزيما، والصدفية، والبهاق، وحب الشباب. وهذه الفوائد جعلتها مقصداً ثابتاً للباحثين، وطلبة التاريخ، والراغبين في الاستشفاء الطبيعي من داخل السودان وخارجه.
وتتجمع هذه المياه العلاجية في برك صغيرة تحيط بها الكثبان الرملية والتكوينات الجبلية، مما يضفي على المكان طابعاً فريداً جذب اهتمام الباحثين وأكسبه أهمية متزايدة كوجهة للسياحة البيئية. وقد ساهم هذا النبع في تنشيط الحركة بقرية عكاشة المجاورة، حيث يتدفق داخل بناء مصمم بعناية كغرفة، يبلغ طولها نحو 3 أمتار ونصف المتر، وعرضها متران، وارتفاعها متر ونصف المتر، لتحتضن بداخلها هذا المصدر الساحر.
تاريخ النوبة وإرث الإهمال
يعتقد أن “حمامات عكاشة” كانت معروفة ومستخدمة منذ العهد النوبي القديم، وتحديداً في فترة الممالك النوبية (كوش، نبتة، ومروي). ويُرجّح مؤرخون وجودها إلى عهد الملك النوبي كاشتا، أحد أبرز ملوك الأسرة الـ25، والذي تمتع بنفوذ واسع في المنطقة. ولا يقتصر هذا العمق التاريخي على الحمامات وحدها، فالمنطقة المحيطة بها غنية بالآثار النوبية، من معابد تاريخية ومقابر وصخور منقوشة باللغة الهيروغليفية، مما يضيف قيمة سياحية وتاريخية مضاعفة للمكان.
ورغم تصنيفها ضمن مناطق الجذب السياحي في السودان، لم تحظ الحمامات بالاهتمام الكافي بعد استقلال البلاد. وتعرضت لفترة طويلة من الإهمال، تزامنت مع ظروف طبيعية قاسية. ففي عام 1988، اجتاح فيضان نهر النيل المنطقة، مما أدى إلى طمر الحمامات بطبقات سميكة من الطمي، ظلت جاثمة على الموقع لنحو 9 سنوات دون أي تدخل لإعادة تأهيله.
وفي ظل الغياب المؤسسي، ولدت قصة ملهمة من رحم المجتمع المحلي. وفي عام 2017، بادرت مجموعة من شباب المنطقة إلى تأسيس “منظمة حمامات عكاشة الخيرية” بهدف إعادة إحياء هذا الإرث. ومن خلال جهود ذاتية، عالجت المنظمة مشكلات تصريف المياه، وقامت بإجراء مسوحات جيوفيزيائية واستخدام تقنيات حفر حديثة لفتح النبع مجدداً.
وتهدف هذه الجهود الشعبية، إلى جانب مساهمات القطاع الخاص، إلى الحفاظ على الموقع وتوفير الحد الأدنى من الخدمات للزوار الذين يتزايد عددهم بشكل ملحوظ في فصل الشتاء من مختلف ولايات السودان مثل الخرطوم ودارفور وكردفان، بالإضافة إلى زوار من دول مجاورة كمصر وليبيا وتشاد. كما يساهم السودانيون المقيمون بالخارج في تنشيط السياحة العلاجية بالمنطقة خلال فترات إجازاتهم.
ورغم هذه المبادرات، لا تزال المنطقة تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية من فنادق ومرافق صحية حديثة وخدمات سياحية متكاملة، وهو ما أدى إلى ضعف الاستثمارات فيها، على الرغم من تأكيد وزارة الثقافة والإعلام والسياحة في السودان على أهمية تطوير الموقع وتحويله إلى منتجع متكامل.
وهكذا لا يمكن النظر إلى “حمامات عكاشة” بوصفها مجرد ينابيع حارة، بل هي شاهد على التقاء الجغرافيا بالتاريخ، وذاكرة حية لتراث نوبي عريق، ومنارة للسياحة البيئية والعلاجية، وصورة صادقة عن ارتباط الإنسان السوداني بأرضه، وإصراره على الحفاظ على كنوزها الطبيعية رغم قسوة الظروف وشح الإمكانيات.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.