حراس الذاكرة ورواد الاستعادة
تحت صمت أحجار كاتدرائية ديرهام العريقة، يبرز أرشيف السودان كتأمل عميق في معنى الذاكرة، مؤكداً أن حسن رعاية المعرفة وتكاتف الجهود العالمية قادران على نسج خيوط التاريخ الهشة في نسيج دائم من الفهم والأمل.
وفي الوقت الذي تواجه فيه متاحف السودان ومعالمه تهديدات غير مسبوقة، يقدم هذا الأرشيف الفريد ملاذاً للذاكرة، وشرياناً للإنقاذ والاستعادة. فمن خلال مجموعاته وموارده الرقمية والتزامه بالحوار، يسهم أرشيف السودان بجامعة ديرهام في ضمان ألا يضيع تراث السودان في غياهب الحرب، بل يصبح تربة خصبة لإعادة الاكتشاف وتحقيق الذات الثقافية ونسج روابط جديدة عبر القارات.
ملاذ من الحجر والحكاية
تتسامى كاتدرائية ديرهام، التي شيدت بين عامي 1093 و1133، كتحفة خالدة من العمارة القوطية. وتضفي أعمدتها الضخمة المتعاقبة ودعائمها الرشيقة، التي يغمرها ضوء ناعم يتسلل عبر النوافذ الشاهقة، جواً من الهيبة والتأمل العميق. أما المساحات الخضراء المحيطة بها، فتقدم نقيضاً هادئاً لعظمة الحجر، وتدعو الزوار للتوقف والتأمل في تعاقب القرون.
وعلاوة على روعتها المعمارية، فقد ظلت ساحات الكاتدرائية، المعروفة تاريخياً باسم “بالاس غرين”، ساحة للتجمعات العامة والاحتفالات والفعاليات المجتمعية، لتكون صلة وصل بين تحفتين معماريتين وقلباً رمزياً للحياة المدنية والروحية في المدينة.
أرشيف السودان: نافذة على ماضي أفريقيا
في قلب هذا الحي التاريخي، وفي مبنى يجاور ساحة الكاتدرائية، يرقد أرشيف السودان؛ مستودع ثري بالمخطوطات والصور والقطع الأثرية التي تضيء ماضي السودان وروابطه المعقدة مع بريطانيا. تأسس الأرشيف عام 1957، في أعقاب استقلال السودان، بهدف جمع وحفظ وثائق المسؤولين البريطانيين والمبشرين والجنود ورجال الأعمال والأطباء والمزارعين والمعلمين وغيرهم ممن ارتبطت حياتهم وعملهم بالسودان إبان الحكم الثنائي (1898–1955).
ومع مرور الزمن، توسع الأرشيف ليشمل مواد من الحقبة المهدية، وسجلات الحملات العسكرية في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، ووثائق تمتد إلى ما بعد الاستقلال، بما في ذلك انفصال جنوب السودان عام 2011. ويضم اليوم أكثر من 500 مجموعة فردية من الأوراق الرسمية والشخصية، والصور الفوتوغرافية، والأفلام، والتسجيلات الصوتية، والخرائط، والمقتنيات المتحفية، والمطبوعات النادرة، تغطي السودان ومصر وشبه الجزيرة العربية وفلسطين والأردن وسوريا والدول الأفريقية المجاورة.
مستودع ذو أهمية عالمية
ونظراً لأهميته الوطنية والدولية، حصل أرشيف السودان على تصنيف “مُعترف به” من مجلس المتاحف والمكتبات والأرشيفات البريطاني عام 2005. وتوفر مقتنياته المتنوعة مصادر أولية لا تقدر بثمن للباحثين في مجالات التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا والآثار والدراسات الأفريقية، وتمنح رؤى فريدة حول الإدارة الاستعمارية والحياة اليومية وتعقيدات الاستقلال السوداني والسياق الإقليمي والدولي الأوسع.
ولا يزال الأرشيف ينمو باستمرار مع تبرع المغتربين والباحثين الدوليين بمواد جديدة، ليبقى مورداً أساسياً لكل من يسعى لفهم النسيج المعقد لتاريخ السودان وإرث الاستعمار البريطاني والروابط المتجذرة بين أفريقيا والعالم.
شريان حياة في زمن الأزمة: صون ذاكرة السودان
لقد وضعت الصراعات المستمرة في السودان تراث البلاد الثقافي في خطر داهم، حيث تعرضت المتاحف للنهب ودُمرت القطع الأثرية وتعرضت السجلات التاريخية لخطر الضياع الدائم. وفي هذا السياق، يبرز أرشيف السودان بجامعة ديرهام كملاذ حيوي لحفظ، وربما استعادة، التراث المنهوب.
ومع استمرار الحرب وعدم الاستقرار في تهديد المتاحف والمؤسسات الثقافية السودانية، تزداد أهمية المواد المحفوظة في ديرهام، إذ تتيح للباحثين السودانيين وأبناء الجالية والجيل القادم الوصول إلى مصادر أولية لإعادة بناء تاريخ البلاد وثقافتها وهويتها — كذلك حتى إذا فقدت القطع الأصلية أو تعذر الوصول إليها مؤقتاً. وتضمن الفهارس الرقمية للأرشيف وجهوده المستمرة لتوسيع مقتنياته ونشرها ألا تمحى معرفة الماضي السوداني رغم اضطرابات الحاضر.
منصة للاسترداد والحوار
يلعب الأرشيف أيضاً دوراً محورياً في النقاش العالمي حول استرداد القطع المنهوبة، فبعض القطع مثل الرايات التي أُخذت من أم درمان والمحفوظة في مكتبة “بالاس غرين” بديرهام، هي من بين الكنوز التي تسعى السلطات السودانية الآن لاستعادتها ضمن حملة لاسترداد التراث المنهوب إبان الحقبة الاستعمارية. ومن خلال توثيق الأصول وحفظ السجلات التفصيلية، يدعم الأرشيف الشفافية والتفاوض المستنير حول إعادة الممتلكات الثقافية لأصحابها.
الأدلة الرقمية: سلاح جديد في معركة التراث
تقع الموارد الرقمية لأرشيف السودان في طليعة جهود حماية التراث واستعادته في العصر الحديث. فالصوَر عالية الدقة، والخرائط الرقمية، والنماذج ثلاثية الأبعاد، والسجلات الإلكترونية توفر توثيقاً دامغاً للقطع والمواقع والمجموعات المتحفية. وتكمن أهمية هذه الأصول الرقمية في:
- التوثيق الدقيق: تتيح الصور التفصيلية والنماذج ثلاثية الأبعاد تحديد القطع بدقة إذا ظهرت في الأسواق أو المزادات العالمية.
- حفظ المعلومات وإتاحتها: يضمن الأرشفة الرقمية بقاء البيانات متاحة حتى إذا فقدت القطع الأصلية أو دُمرت.
- تسهيل البحث والمطابقة: تمكّن الفهرسة المدعومة بالذكاء الاصطناعي من المقارنة السريعة مع قواعد البيانات العالمية، مما يزيد فرص الاستعادة.
- دليل قانوني للملكية: تُعد الصور والبيانات الرقمية الموثقة دليلاً رسمياً في النزاعات القانونية الدولية، وتدعم مطالب السودان بالاسترداد.
تعزيز التعاون الدولي
يحوّل التحول الرقمي الأرشيف إلى أداة للتعاون العالمي، إذ يمكّن مشاركة البيانات والصور الباحثين والمؤسسات حول العالم من تحديد القطع المنهوبة وتوحيد جهود الاسترداد وتقديم الأدلة القانونية الموثقة في النزاعات الدولية. ومن خلال حماية التراث بالأرشفة الرقمية، يتعزز الوعي العالمي وتُلهم المجتمعات لدعم جهود السودان في استعادة إرثه الثقافي.
جسر نحو المستقبل
في نهاية المطاف، يتجاوز أرشيف السودان في ديرهام كونه مستودعاً للماضي؛ ففي خضم الأزمات، يشكل حلقة وصل حيوية تربط التراث الثقافي المبعثر للسودان برؤى ودعم المجتمع الأكاديمي والدولي. ويضمن وجوده أن تبقى الذاكرة الفكرية والثقافية للشعب السوداني حية ومُتاحة لكل من يسعى لاستعادتها أو فهمها أو إحيائها، حتى وإن هددت الحرب بطمس معالمها المادية.
اكتشاف المزيد من اليراع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.