38.4 C
Khartoum

السودان: عن التفاوت الحضاري والتباين القيمي

Published:

يتحلى السودانيون في أغلب دول العالم، خاصة في الدول العربية، التي اعتادوا على الانتقال إليها والعيش فيها لظروف العمل، بسمعة طيبة. السؤال، الذي حير الكثيرين من الذين تابعوا أخبار الحرب على مدى العامين الماضيين، كان حول الجرائم الفظيعة، التي ارتكبت، وما حدث خلال الحرب من استسهال للقتل ومن اغتصابات ونهب وتخريب بغرض التخريب، فكيف أمكن أن يرتكب ذلك السوداني المسالم، المعروف بالأمانة والبساطة والخلق الطيب، كل ذلك؟
من المهم القول هنا إن ذلك الإحساس بالاندهاش لا يقتصر على من هم في الخارج، بل إن الفظائع والانتهاكات، التي لم يسلم منها أحد، خاصة في العاصمة الخرطوم وغيرها من مناطق الوسط، كانت تشعر السودانيين أنفسهم بالصدمة. حتى بعد أن أصبحت الحرب واقعاً كان أغلب المواطنين متمسكين ببيوتهم وقابعين في أحيائهم وهم يتعاملون مع ذلك الصراع الناشئ، كمجرد أزمة سياسية أطرافها قيادات عسكرية متنافسة. هذا الفهم، الذي كان شائعاً على مدى الأيام الأولى، كان يوحي بالاطمئنان، وبأن العامة من المدنيين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في السياسة، سيكونون في مأمن.

حالة الاسترخاء والاطمئنان، التي جعلت أغلب الناس في السودان لا يأخذون التحذير من الكارثة المقبلة على محمل الجد، كانت تعود في المقام الأول للثقة بمؤسسات الدولة الأمنية

في الحقيقة فإنه كانت هناك أصوات قد بدأت بالتحذير منذ وقت مبكر قائلة، إن حرب «الدعم السريع»، المجموعة العسكرية، التي يقودها محمد حمدان دقلو «حميدتي»، لن تكون حربا عادية، وأنها ستكون حربا سيلجأ فيها الأخير إلى القبيلة، التي ستدخل هذا الصراع وفق منطقها القبلي، الذي لا ينظر للأشياء بمنظور السياسة، وإنما بمنظور العشيرة، التي تعتبر أن كل من لا يشترك معها في دمائها هو عدو. لم يهتم كثير من الناس للأصوات، التي كانت تذكر بالجرائم، التي ارتكبتها هذه القبائل، التي كانت تحمل اسم «الجنجويد» في دارفور، أو تلك التي كانت تحكي عن الطموح القديم لإنشاء دولة عنصرية لمجموعة «العطاوة»، أو التي كانت تحذر سكان الخرطوم من أنه سيتم تهجيرهم وإفقارهم والتوسع في إذلالهم، تمهيداً لتفريغ العاصمة ومن ثم احتلالها وتغيير التركيبة السكانية فيها وفي مجمل مناطق الوسط والشمال. حالة الاسترخاء والاطمئنان، التي جعلت أغلب الناس لا يأخذون التحذير من الكارثة المقبلة على محمل الجد، كانت تعود في المقام الأول للثقة بمؤسسات الدولة الأمنية. هذه الثقة المفرطة، كانت تتجاهل عاملا مهماً، وهو أن حميدتي كان جزءا من تلك المؤسسات الأمنية بالفعل، ما يجعل محاولته للانقضاض على الدولة، أو ابتلاعها أكثر جدية من أي تهديد سابق تم التعرض له. تسبب في حالة الاسترخاء هذه أيضاً كون أن عقل أهل الخرطوم مسالم بطبعه، وأن سكان الوسط والشمال، وبسبب بعدهم الجغرافي عن مناطق الحرب والصراعات، كانوا لا يستطيعون أن يحسنوا تقدير الموقف، بل إن كثيرا منهم كان يرى فيما كان يروى عن فظائع «الجنجويد» في مناطق دارفور نوعاً من المبالغة. هذا العقل المسالم لم يكن بإمكانه أن يستوعب أنه سوف يجرد من ممتلكاته وسوف يجبر على الخروج من بيته من أجل أن يسكنه أغراب قادمون من أقصى الغرب. لم يكن هذا العقل يستوعب أنه مستهدف بهذه الحرب، وأن الغزاة، كما عبر أحد قادتهم، لا يفهمون المعركة إلا على أساس أنها «حرب الغرابة على الجلابة»، أي حرب قبائل غرب السودان على شعوب الوسط والشمال.
القائد، الذي استخدم ذلك التعريف الواضح، كان يخاطب مجموعة من الأسرى، الذين تصادف أن كانوا في معسكر الجيش مع أنهم من إقليم دارفور. بعكس التعامل مع الأسرى من المناطق الأخرى، كان قادة التمرد رحماء بأولئك المعتقلين، فكانوا يرون أنهم لا يستحقون القتل والتعذيب بسبب انتماءاتهم العرقية، وأن المطلوب هو فقط أن يتم شرح منطق المعركة لهم وإفهامهم أنها معركتهم وأن الحرب ليست، كما تصوروا، بين جيش نظامي ومتمردين، بل هي حرب ثأر المهمشين من النخبة المتسلطة النيلية. في أغلب مناطق إقليم دارفور، خاصة في تصور مجموعات «الجنجويد»، فإن الأصل هو القبيلة، التي تتحول إلى مركز للتفكير وتقييم العلاقات، والتي يصبح شيوخها وقادتها بالنسبة لعامة الأفراد في مرتبة أعلى من مرتبة المفتي الديني أو رئيس الحزب أو الجماعة. هذا الإذعان الصارم لصوت القبيلة لدرجة إلغاء العقل لا يقتصر على البسطاء، أو الذين لم تتح لهم فرصة الحصول على قدر من العلم والثقافة، ولكنه أمر يتشارك فيه من حصلوا على أرفع الدرجات العلمية والمناصب الإدارية مع غيرهم، على نحو ما رأينا من انحياز مبكر للميليشيا قامت به شخصيات كان على رأسها حسبو عبد الرحمن نائب الرئيس البشير، والقيادي في ما يعرف بـ»الحركة الإسلامية». رجل النظام السابق تناسى كل مواقعه ومواقفه وغلب عليه الانتماء القبلي، الذي جعله ينحاز لمشروع حميدتي، الذي كان يمثل له، كما لغيره، الرافعة، التي يمكنها أن تنقل أهله وأبناء قبيلته من حافة الهامش السياسي إلى صلب الدولة. في بقية أنحاء السودان، خاصة في مناطق الوسط والشمال، يحتفظ المواطنون بعلاقة مختلفة مع قبائلهم، حيث يتراجع الانتماء القبلي لصالح انتماءات أخرى حزبية أو اجتماعية، فلا يعتبر سكان هذه المناطق أنهم ملزمون بأي قرار يخرج عن ممثلي القبيلة، بل لا يكادون يعترفون بأن لقبيلتهم قائد يمكنه أن يتخذ قرارات ملزمة لهم.
هذا التباين في النظر إلى القبيلة كان له انعكاسان، فمن ناحية ظلت شعوب الوسط تقلل من حملات الاستنفار القبلي، التي كان يقوم بها نظار القبائل، والتي ساهمت في دفع آلاف الشباب للالتحاق بمعركة الخرطوم. ظل مثقفو الوسط، الذين يقيسون الأمور وفق منظورهم هم، يرفضون كذلك توصيف التمرد بأنه تمرد قبائل ومجتمعات وكانوا يعتبرون أن الدعوات، التي تطلقها القبيلة عبر قادتها ومشايخها، غير ملزمة بالضرورة للجميع. الانعكاس الثاني كان متعلقاً بالطرف الآخر، فلأن العالم لا يمكن أن يرى بالنسبة لقبائل الجنجويد دون منظار القبيلة، فهم لم يكونوا يستوعبون فكرة أنهم يقاتلون جيشاً وطنياً، وكانوا منحصرين في ترديد أن هذا الجيش هو جيش الشماليين، وأن داعميه هم أبناء قبائل الشمال. هذه الفكرة، التي سعوا لتكريسها منذ البداية من أجل ان تضاعف حماس المقاتلين، كانت تساهم أيضاً في استسهال الاستهداف الجماعي للمدنيين، الذين كان ينظر إليهم على أنهم واقفون في صف الجيش، وبالتالي أنهم ليسوا بريئين، وإنما أعداء. أما التفاوت في منظومة القيم، الذي أظهرته هذه الحرب فواضح ولا يحتاج إلى بيان، ففي الجغرافيا نفسها سوف تجد أن هناك سودانياً يجبرك على الخروج من بيتك، ولا يجد غضاضة في استباحة مالك وعرضك ودمك، في حين أن هناك سودانيا، من خلفية أخرى، يستقبلك ويخفف عنك ألمك وحزنك، فاتحا لك بيته ومقتسما معك زاده القليل ومساحته المتواضعة.
مشهد الاحتفال في مدن الغرب بالسيارات المنهوبة والأموال المقبلة من نواحي الخرطوم، وأبيات المدح، التي قيلت بحق قاطعي الطريق من أجل تشجيع غيرهم على المضي في طريقهم، ستبقى دليلاً على أن الأمر لم يكن يتعلق بتصرف فردي أو أمر فرضته المصادفة، بقدر ما كان يعبر عن ثقافة محلية لا ترى في استباحة ما في يد الغير إثما، بل تراه عملا بطوليا.
كاتب سوداني


اكتشاف المزيد من اليراع

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مواضيع مرتبطة

مواضيع حديثة