ميدانياً تحتدم المعارك في الجزيرة والخرطوم بحري، وسياسياً، باتت دعوات فصائل تابعة لتنسيقية «تقدم» لتكوين حكومة في مناطق الدعم السريع نقطة خلاف قد تؤدي إلى انقسام التحالف.
الخرطوم ـ «القدس العربي»: لا تزال الحرب الدامية في السودان تضع مصير ثالث أكبر بلد أفريقي على مفترق طرق في ظل مواقف سياسية متباعدة وشديدة التعقيد تصاعدت خلالها عمليات الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ما أدى إلى وقوع مزيد من الضحايا.
لم يختلف العام المنصرم عن سابقه، إذ لا تزال مدن السودان تستفيق على وقع دوي المدافع والإحصائيات المفزعة الصادرة من المنظمات الصحية والحقوقية عن أعداد القتلى والمصابين من المدنيين وتخريب للبنية التحتية وعمليات التهجير القسري.
وإلى ذلك، كان تقرير صدر مؤخراً من قبل باحثين في بريطانيا والسودان قد كشف عن أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 61 ألفا قتلوا في العاصمة الخرطوم وحدها منذ اندلاع الحرب منتصف نيسان/ابريل العام الماضي وحتى تشرين الثاني/نوفمبر الماضي منهم 26 ألفا قتلوا بعد إصابتهم بجروح خطيرة.
بينما تقول الأمم المتحدة إن الصراع في السودان دفع 11 مليوناً للفرار من منازلهم وتسبب في أكبر أزمة جوع في العالم ويحتاج نحو 25 مليون نسمة ـ نصف سكان السودان تقريباً ـ إلى المساعدات في وقت تنتشر فيه المجاعة في مخيم واحد للنازحين على الأقل. كذلك كشفت عن وقوع جرائم عنف واسترقاق جنسي وتورط دول جوار ودول إقليمية في تغذية الصراع عبر مد الدعم السريع بالسلاح.
إعلان سياسي
في كانون الأول/يناير، وقعت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية «تقدم» بزعامة رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك إعلان أديس أبابا مع قوات الدعم السريع بعد اجتماعات استمرت يومين مع قائدها محمد حمدان دقلو «حميدتي» وأعلنت «تقدم» أنها تنتظر موافقة الجيش لعقد اجتماع مماثل لإيجاد حل سلمي للصراع المسلح لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
ونص اتفاق «تقدم» مع الدعم السريع على تشكيل إدارات مدنية بتوافق أهل المناطق المتأثرة بالحرب، تتولى مهمة ضمان عودة الحياة إلى طبيعتها وتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين كذلك تشكيل لجنة وطنية لحماية المدنيين من شخصيات قومية داعمة لوقف الحرب. وأقر الإعلان التعاون التام مع لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان بما يضمن كشف الحقائق وإنصاف الضحايا ومحاسبة المنتهكين بالإضافة إلى لجان أخرى لرصد الانتهاكات والتحقيق بشأن من أشعل الحرب.
في سياق آخر، أعلنت الخارجية السودانية في ذات الشهر تجميد التعامل مع منظمة «إيقاد» بشأن ملف الأزمة الراهنة في السودان احتجاجاً على عقد قمة استثنائية في أوغندا وأدرجت فيها مسألة السودان بدون التشاور مع الحكومة وكذلك بسبب موقفها من تنفيذ قمة سابقة رأته الحكومة انتهاكاً لسيادة البلاد فضلاً عن سبب آخر متعلق بدعوة حميدتي للحضور في مكان انعقاد القمة الطارئة، واعتبر بيان الخارجية أن الأمر يعد سابقة خطيرة.
في مطلع شباط/فبراير الماضي، كشفت تقارير صحافية، عن اجتماعات سرية بين عضو مجلس السيادة ونائب القائد العام للجيش شمس الدين كباشي ونائب قائد الدعم السريع وشقيق حميدتي عبدالرحيم دقلو في العاصمة البحرينية المنامة وبحضور مسؤولين من مصر والولايات المتحدة والسعودية والإمارات.
واتفق وقتها الطرفان ـ وفق التسريبات ـ مبدئياً على إعلان مبادئ تشمل الحفاظ على وحدة السودان وجيشه وأسس الحل الشامل للأزمة السودانية وتفكيك نظام 30 يونيو 1989في كافة مؤسسات الدولة والقبض على الفارين من السجون وتيسير مثول المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية وتنظيم حوار وطني شامل من أجل الوصول إلى حل سياسي بدون إقصاء أحد عدا حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية التابعة له وواجهاته.
لم يعلق الجيش حتى اللحظة عن ما دار في المنامة وخرج رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان معلناً عدم الذهاب إلى اتفاق ما لم تنفذ قوات حميدتي إعلان جدة في آيار/مايو 2023 والذي ينص على الخروج من منازل المواطنين والأعيان المدنية، بينما رأت الدعم السريع أن اتفاق المنامة لم يمض إلى الأمام بسبب أجهاضه من قبل دوائر ضغط تتبع للنظام القديم داخل الجيش.
العام 2024 شهد ترجيح ميزان القوى لصالح الجيش ووفق خبراء عسكريين انتقل من مرحلة معارك الاستنزاف والدفاع عن مقاره العسكرية والاستراتيجية إلى تنفيذ أعمال عدائية والانفتاح في معارك اكتساب الأرض بعد حصوله على أسلحة نوعية ومسيرات حديثة.
وتمكن الجيش في 12 اذار/مارس الماضي من السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون في أمدرمان بعد معارك عنيفة تكبدت فيها الدعم السريع خسائر فادحة في العتاد والأرواح وبتلك الخطوة فرض الجيش سيطرته على كافة أحياء أمدرمان القديمة وتحولت ميادين القتال في المدينة إلى النواحي الغربية في أمبدة والجنوبية تجاه أحياء الفتيحاب وصالحة. واعتبر خبراء عسكريون أن معركة الإذاعة والتلفزيون كانت مفتاحية لمراحل قتالية أخرى بالإضافة إلى أنها منحت الجيش نصرا معنويا كبيرا.
في نيسان/ابريل الماضي، كان الحدث الأبرز تقييد بلاغات ضد 17 قيادياً من «تقدم» على رأسهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ووزيرة الخارجية السابقة مريم الصادق وشقيقتها زينب الصادق المهدي بتهم إثارة الحرب ضد الدولة والتحريض والمعاونة على تقويض النظام الدستوري وأعلنت وقتها اللجنة الترتيب لعمل نشر حمراء لدى الانتربول وهو الأمر الذي رفضته «تقدم» ووصفته بالاستهداف الممنهج.
في 2 نيسان/ابريل الماضي، دخلت مدينة عطبرة شمالي السودان إلى دوامة الحرب بعد أن نفذت الدعم السريع هجوماً مسلحاً عبر طائرة مسيرة أودى بحياة 12 شخصاً وإصابة العشرات، وكانت المسيرة استهدفت إفطاراً رمضانياً بوسط المدينة نظمه لواء البراء بن مالك الذي يقاتل إلى جانب الجيش في حربه ضد الدعم السريع.
القاعدة الروسية في الساحل
في 2 ايار/مايو اندلعت مواجهات جديدة بمدينة الفاشر غربي السودان عقب محاولة الدعم السريع الاستيلاء عليها وهي آخر المدن المهمة التابعة للجيش في دارفور، وحشدت الدعم السريع الآلاف من جنودها وآلياتها العسكرية لتحقيق هذا الهدف لكن لا يزال الجيش المسنود بالقوة المشتركة للحركات المسلحة وقوات المقاومة الشعبية يتصدى لموجات الهجوم المستمرة حتى كتابة هذا التقرير.
شهد الشهر كذلك وصول نائب وزير الخارجية الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف إلى العاصمة الإدارية المؤقتة بورتسودان في زيارة استغرقت يومين التقى خلالها قائد الجيش وعددا من المسؤولين الآخرين، وأكدت المصادر وقتها، أن السودان طالب موسكو بأسلحة ومعدات حربية بالإضافة إلى قاعدة قطع علاقة فاغنر بالدعم السريع بينما طالب الطرف الآخر بعدم التعامل مع أوكرانيا وتخصيص مربعات تعدين إلى جانب إنشاء القاعدة اللوجستية في ساحل البحر الأحمر والتي كانت قد أقرتها اتفاقية مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في العام 2017.
في ذات المنحى أكد عضو مجلس السيادة ومساعد قائد الجيش ياسر العطا اعتزام السودان المصادقة على اتفاقية إنشاء القاعدة الروسية في البحر الأحمر وغيرها من الاتفاقات قريباً.
منتصف 2024 كانت المعارك في أوجها، خاصة من قبل الدعم السريع الذي استطاع وبصورة مباغتة التوغل في العمق السوداني من خلال استيلائه على منطقة جبل موية الاستراتيجية ومدينة سنجة عاصمة ولاية سنار جنوب شرق البلاد. بالموازة اشتدت المعارك في مدينة الفاشر وتواصل صمود الجيش والقوات المشتركة التي استطاعت قتل أحد أبرز قادة الدعم السريع ـ الرابع في الترتيب ـ علي يعقوب الذي قاد الهجوم على المدينة.
مجلس الأمن الدولي بدوره، اعتمد قراراً في 14 حزيران/يونيو يطالب فيه بإنهاء حصار الفاشر والوقف الفوري للقتال بالمدينة ومحيطها وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين، لكن لم ينفذ هذا القرار ولا تزال المعارك محتدمة في المدينة وضواحيها.
اتهامات للإمارات
في تموز/يوليو، تواصل نزيف قيادات الدعم السريع إذ استطاع الجيش عبر غارة جوية اغتيال قائد الدعم السريع في منطقة سنار عبدالرحمن البيشي، أبرز القادة في صفوف قوات حميدتي، وشارك في معارك عدة من بدء من القتال في محيط القيادة العامة أيام الحرب الأولى بالإضافة إلى معارك مجمع اليرموك الصناعي والاحتياطي المركزي والكتيبة الاستراتيجة فضلاً عن قيادته للقوات التي استولت على جبل موية وتوغلت في ولاية سنار.
منذ أيام الحرب الأولى اتهمت الحكومة السودانية دولة الإمارات العربية في المشاركة في الحرب ضد السودانيين عبر دعم قوات حميدتي بالسلاح والمعدات اللوجستية، وإلى ذلك قدمت العديد من الشكاوى إلى مجلس الأمن الدولي ومنظمات إقليمية أخرى، لكن في 19 تموز/يوليو وعن طريق وساطة من الرئيس الأثيوبي أبي أحمد عقب زيارة له في بورتسودان، بحث رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان مع رئيس الإمارات محمد بن زايد عبر اتصال هاتفي سبل دعم السودان والخروج من الأزمة التي يمر بها.
وقالت المصادر آنذاك إن البرهان قدم لبن زايد أدلة عن تورط الإمارات في الحرب مثل تنقل قائد الدعم السريع بطائرة إماراتية ونقل الأسلحة عبر تشاد وأوغندا وعلاج الجرحى وإيواء المعارضين ودعا البرهان الرئيس الإماراتي بوقف دعم قوات حميدتي.
في أواخر تموز/يوليو وأثناء طابور عرض عسكري لحفل تخريج الدفعة 68 طلبة حربيين والدفعة 20 و23 من تأهلي الكلية الجوية والبحرية بمنطقة جبيت العسكرية، انفجرت مسيرتان انتحاريتان بالقرب من منصة رئيس مجلس السيادة وقائد الدعم السريع عبدالفتاح البرهان في محاولة فاشلة لاغتياله ما تسبب في مقتل 5 عسكريين. بعد ربع ساعة نشر الجيش مقطعا مصورا على صفحته بـ«فيسبوك» يظهر البرهان في قاعدة جبيت العسكرية.
في 17 آب/أغسطس، انطلقت محادثات جنيف في ظل غياب الجيش ما خفت بارقة أمل أخرى في التوصل إلى اتفاق سلام بعد ما رفضت الحكومة المشاركة في المحادثات التي ترعاها السعودية والولايات المتحدة وطالبت بتنفيذ إعلان جدة بالإضافة إلى دعوتها لإبعاد الإمارات من الوساطة أو مراقبة المحادثات باعتبارها شاركت الدعم السريع في قتل السودانيين.
سيول وأوبئة
أزمات السودان لم تنحصر في القتال بين الجيش والدعم السريع، وإنما تفاقمت الأوضاع بعد أن شهدت عدة مناطق في البلاد كوارث من سيول وفيضانات قتل على إثرها 68 شخصاً وأصيب نحو 130 آخرين في الولايات المختلفة حسبما أفادت وزارة الصحة السودانية في ايلول/سبتمبر الماضي، وصاحب السيول والأمطار تفشي وباء الكوليرا وحمى الضنك في ظل مشاكل صحية وتخريب طال المؤسسات الطبية بسبب الحرب.
في 26 ايلول/سبتمبر قام الجيش السوداني بعملية انفتاح نوعية في العاصمة الخرطوم، فرض خلالها سيطرته على ثلاثة جسور مهمة ما أسفر عن انتقال المعارك إلى قلب الخرطوم نواحي المقرن واشتعالها مجدداً في الخرطوم بحري.
كان الحدث الأبرز في تشرين الأول/اكتوبر، استسلام قائد الدعم السريع في ولاية الجزيرة أبوعاقلة كيكل وعدد من قواته للجيش السوداني بعد صفقة ضمنت العفو عنه مقابل انخراطه في القتال ضد الدعم السريع حسبما أكدت مصادر لـ«القدس العربي».
انضمام كيكل للجيش قابلته الدعم السريع بحملات انتقامية طالت بعض القرى في شرق الجزيرة ومناطق أخرى في الناحية الشمالية، وبلغ ضحايا قرية سريحة وحدها نحو 150 قتيلاً ومئات الجرحى بالإضافة إلى تهجير الأهالي، كذلك فرضت الدعم السريع حصاراً على مدينة الهلالية شرق الجزيرة ما أدى إلى مقتل 500 حسب تقارير منظمات حقوقية محلية أفادت أيضا بأن حملات قوات حميدتي الانتقامية طالت 2500 قرية خالية من السكان.
قبل نحو شهر من الآن، أعاد الجيش تعزيز قدراته العسكرية وخاض معارك ضارية انتهت باستعادته عاصمة ولاية سنار مدينة سنجة، بعد أن استولى سلفاً على منطقة جبل موية الاستراتيجية والتي عزا فيها «حميدتي» خسارته بسبب تدخل الطيران المصري الأمر الذي رفضته القاهرة عبر بيان من وزارة خارجيتها.
وعقب استعادة سنجة أعاد الجيش انفتاحه على مواقع جديدة واستطاع ربط القوات بين سنار وإقليم النيل الأزرق إلى جانب توسعه في شمال غرب سنار وتحرير مصنع السكر والقرى المحيطة به وتمدد أيضاً داخل ولاية الجزيرة واستولى على منطقة ودالحداد ويخوض في هذا التوقيت معارك ضارية في سبيل تحرير مدينة ودمدني.
بالتزامن، اثير جدل واسع في الأوساط السودانية عقب استخدام روسيا حق النقض «الفيتو» في 18 تشرين الثاني/نوفمبر، أسقط بموجبه مشروع قرار بريطاني مقدم إلى مجلس الأمن الدولي معني بوقف الحرب في السودان.
من جانبها، رحبت الحكومة السودانية باستخدام روسيا «الفيتو» وأشادت بالموقف الروسي الذي قالت إنه «جاء تعبيراً عن الالتزام بمبادئ العدالة واحترام سيادة الدول والقانون الدولي ودعم واستقلال ووحدة السودان ومؤسساته الوطنية».
وأكد مراقبون أن العام 2024 يمضي إلى خواتيمه وما زال السودان يشهد أحداثا مفصلية، ميدانياً تحتدم المعارك في الجزيرة والخرطوم بحري، سياسياً، باتت دعوات فصائل تابعة لتنسيقية «تقدم» لتكوين حكومة في مناطق الدعم السريع نقطة خلاف وحسب مراقبين قد تؤدي إلى انقسام في التحالف.