تخريب ونهب… أيادي الحرب تمتد إلى تاريخ السودان في آثاره

الخرطوم ـ «القدس العربي»: عندما اندلعت الحرب في السودان منتصف نيسان/ابريل العام الماضي، كانت أولى مسارحها مدينة مروي التاريخية شمالي البلاد وفي قلب العاصمة الخرطوم التي تحوي عدة متاحف ومواقع أثرية مهمة، ما عرض مئات القطع النادرة التي توثق لحقب ضاربة في القدم إلى النهب والطمس والتخريب.

وبالتزامن مع تمدد الصراع غرباً إلى مدن الجنينة ونيالا والفاشر ومدينة سنجة في الجنوب الشرقي والتي بدورها تمثل العمق التاريخي في السودان، فقدت كذلك آثار لا تقدر بثمن وخربت متاحف بل وتحول بعضها إلى ثكنات عسكرية.
«في آب/اغسطس 2023 رصدنا خروج شاحنات كبيرة محملة بكل المواد الأثرية المخزنة في متحف السودان القومي عن طريق أمدرمان نحو غرب السودان ومن ثم توزيعها على مناطق الحدود وخاصة جنوب السودان»، تقول إخلاص عبد اللطيف مديرة المتاحف بالهيئة العامة للآثار ورئيس وحدة الآثار المسروقة في إفادات لـ«القدس العربي».
ومنذ أيام الحرب الأولى سيطرت الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي» على مباني القصر الجمهوري الذي يضم متحفا خاصا بالإضافة إلى الاستيلاء على المتحف القومي في منطقة المقرن والمتحف الطبيعي وسط الخرطوم ومتحف الخليفة عبدالله التعايشي في أمدرمان ومتاحف أخرى في مدينتي الجنينة ونيالا بدارفور. وبث جنود حميدتي مقاطع مصورة ووثقوا خلالها عملية اقتحامهم لتلك المواقع الأثرية وبعض التخريب الذي طالها.

خسائر أثرية هائلة

تفيد سلسلة متابعات «القدس العربي»، عن تعرض ما لا يقل عن 25 موقعاً أثرياً للتدمير والنهب خلال حرب السودان الأخيرة بما في ذلك مواقع ومقار أثرية بارزة ومدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو ما أدى إلى خسائر هائلة بعضها مرتبط بالقيمة المعنوية وجوانب الهوية وآخر له تأثير مباشر بالاقتصاد باعتبار أن المواقع والمتاحف الأثرية في السودان كانت أحد مصادر الإيرادات التي يمكن التعويل عليها.
يقول المؤرخون، إن المنطقة التي تشكل السودان الحالي يمتد تاريخها إلى العصور القديمة، حيث شهدت حضارة كرمة (2500 إلى 1500) قبل الميلاد، وكذلك حضارة كوش (785 ق.م إلى 350 م) التي بعد سقوطها بنى النوبيون ثلاث ممالك مسيحية، نوباتيا، المقرة وعلوة، واستمرت المملكتان الأخيرتان حتى 1500 لتظهر بعدها سلطنة سنار وسلطنة دارفور ومن ثم يبدأ تاريخ آخر للدولة الحديث.
كشفت مديرة المتاحف، إخلاص عبد اللطيف، عن أن المجاميع المتحفية التي تم نهبها من المتحف القومي في الخرطوم ترجع إلى جميع العصور التاريخية القديمة منذ العصر الحجري وحضارة كرمة ونبتا ومروي وما قبل المسيحية والإسلامية مشيرة إلى أن المتحف القومي يعتبر المستودع الرئيسي لكل آثار السودان.
وأشارت كذلك، إلى تعرض متاحف أخرى للنهب والتدمير مثل متحف نيالا بدارفور الذي سرق بالكامل حتى الأثاث وواجهات العرض. وقالت عبد اللطيف، إن 80 في المئة من الآثار في متحف الخليفة عبدالله التعايشي في أمدرمان غربي العاصمة نهبت إلى جانب تعرض أجزاء من المبنى للتدمير.
في سياق نهب متاحف السودان، تقود التتبعات، إلى سرقة واسعة وتخريب طال أيضا متحف السلطان بحر الدين بمدينة الجنينة في غرب دارفور والذي يوثق لفترة سلطنة المساليت الشهيرة بالإضافة إلى متحف السودان للتاريخ الطبيعي الذي يحتوي على عينات من أنواع مختلفة من الحيوانات والسجلات الجيولوجية فضلاً عن حيوانات مهددة بالانقراض وما يقارب عن 100 حيوان من الزواحف والأسماك والثديات والعقارب، كما يضم المتحف قاعة الطيور التي فيها عينات من السودان وجنوب السودان في الفترة الممتدة ما بين 1885 إلى 1945.
وإلى جانب ذلك، وصلت نيران الحرب أيضا إلى مبان حكومية ومعالم تاريخية أثرية وثقافية، تدمر بعضها ونهب البعض الآخر منها مبنى البريد القديم في شارع الجامعة، وزارة المالية بالخرطوم وطوابي المهدية وبوابة عبدالقيوم والسجن بمدينة أمدرمان.
وكان مراقبون قد أبدوا تخوفهم من تخريب إضافي يطال المواقع الأثرية وذلك في أعقاب تسلل قوات الدعم السريع إلى بعض المواقع الأثرية ودخول أخرى إلى دائرة المعارك. ففي مطلع كانون الأول/يناير نشر أفراد للدعم السريع صوراً لهم على مواقع التواصل الاجتماعي في موقعي النقعة والمصورات الأثريين في جزيرة مروي وبعدها أصدر الجيش بيانا أكد خلاله تصدي الفرقة الثالثة مشاة في شندي لمجموعات العربات القتالية التابعة للدعم السريع في منطقة النقعة والمصورات.
وقال ناشطون، إن المنطقة أعلاه لم تشهد صداما داخل المواقع الأثرية ولم تتأثر بالمواجهات التي حدثت لكن أعربوا في الوقت نفسه عن هواجسهم بأن تعاود الاشتباكات مرة أخرى خاصة أن الدعم السريع لم تنسحب بعيداً عن الموقع.

«إنسان سنجة»

منطقة سوبا جنوب شرق الخرطوم، هي الأخرى تُثار حولها المخاوف وهي تقع تحت سيطرة الدعم السريع وتضم بقايا آثار دولة علوة النوبية، كذلك انتقال الحرب إلى مدينة سنجة التي تعد أول عاصمة للسلطنة الزرقاء (1504م إلى 1820م) وعثر فيها على رابع أقدم جمجمة على مستوى أفريقيا ما يعرف عند المؤرخين بـ«إنسان سنجة».
أقرت مديرة المتاحف السودانية، بعدم وجود أي إحصائية دقيقة عن حجم المنهوبات في المواقع الأثرية مشيرة إلى صعوبة حصر الخسائر في عدة مواقع أهمها المتحف القومي لاستحالة الوصول إليه وهو يقع تحت سيطرة قوات حميدتي.
منظمة اليونسكو بدورها، أعربت عن قلقها البالغ إزاء التهديد الذي يواجه التراث السوداني ودعت المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة لحماية المواقع التراثية السودانية ومنع الإتجار غير المشروع بالآثار المنهوبة.
وكانت تقارير صحافية قد كشفت أن قطعاً أثرية سودانية تعرض للبيع على موقع «إيباي» بعد تهريبها من البلد الذي مزقته الحرب، مشيرة إلى أن القطع تشمل تماثيل وأواني ذهبية وفخاراً قد نهبت من المتحف القومي في الخرطوم الواقع تحت سيطرة الدعم السريع.
وقالت إخلاص عبد اللطيف، إن ما يتم عرضه في الميديا بدعوى أنها آثار سودانية نهبت مؤخراً، غير صحيح، في الغالب غير سودانية أو إحدى مواد المهدية التي كانت من ضمن الممتلكات الشخصية التي خرجت أبان الاستعمار كهدايا والآن أصحابها يعرضونها بغض الإتجار. مبينة أن ما سرق من آثار السودان في الحرب لم يظهر حتى اللحظة في بيوتات المزادات العالمية.
تقابل الدعم السريع، أصابع الإتهام التي توجه إليه بنهب الآثار وتخريب المتاحف القومي بالنفي معتبرة أن كل ما يدور في هذا الخصوص مزاعم، وتزعم أنها كانت تنفذ مسؤوليتها في حماية المبنى ومحتوياته كما أكدت اهتمامها بالمواقع الأثرية والتاريخية في البلاد وذلك عبر بيانات في أيام الحرب الأولى.
يقول المؤرخون، إن القطع الأثرية التي نهبت في السودان ليست مجرد مواد بل هي تاريخ للشعوب في البلد الشاسع وتجسيد للذاكرة الوطنية والتنوع الثقافي والاجتماعي، بينما ترى مديرة المتاحف، أن عمليات النهب والتخريب للمتاحف والمواقع الأثرية لا تتم بمعزل عن طبيعة الحرب التي تشنها الدعم السريع نفسها والتي تهدف إلى تفتيت الدولة وطمس الهوية الثقافية عبر التهجير القسري ونهب آثار الحضارة.
في سياق متصل، قال الكاتب الصحافي المهتم بالثقافة والتراث، هيثم الطيب لـ«القدس العربي»: «المرتكز الأساسي في هذه الحرب شكله الحقيقي يظل مرتبطا بمنهج تخريب لقيم المجتمع السوداني كله، وعلى ذلك فالحرب في نتاجها هنا وهناك ظهرت على طريقة تخريب البلد وقيمتها وقيمها على المستوى المادي والمعنوي والشعبي».
وأضاف: «نهب الآثار التي حدثت بشكل كامل في متحف السودان القومي وتحطيم بعضها ونهب جزء منها وتهريبه إلى خارج البلد، ثم تخريب المقر الرئيسي نفسه، يشكل صورة حقيقية لهدف رئيسي للحرب وهو في الأصل قتل مرتكزات البلد كلها داخليا وخارجيا والقيمة التي تحتوي عليها الآثار».
وزاد: «الذي يحطم ويقوم بإحراق شيء ما، يحمل هدفا واضحا نحو هذا الشيء وهو كتابة النهاية له، ومن هنا فعملية الحرب هذه فعلت كل ذلك، وكان الهدف الحقيقي من الذي حدث في متحف السودان القومي حالة قتل التأريخ كله، وبعد ذلك لن يمتلك هذا الوطن أي تراث مادي يعرف به ويتعارف الناس عليه وأن يقولوا هذا وطننا السودان بما فيه»

Share this post