دواعش وجنجويد: من يرعى الفوضى الافريقية؟- د. مدى الفاتح (القدس العربي)

د. مدى الفاتح

الفيديو المتداول لعدد من جنود ميليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهم يعذبون طفلة لا يتجاوز عمرها العشر سنوات بالضرب دون شفقة لم يكن الأول، الذي يصور انتهاكات موثقة عبر أصحابها، الذين بلغت بهم الوحشية حد أنهم لا يرون غضاضة في تصوير ما يفعلون ونشره. الميليشيا ما عادت تنشر مثل هذه الفيديوهات بكثافة، كما كان الأمر في أيام حربها الأولى، التي لم يكد يخلو يوم فيها من تصوير لأفعال رهيبة وغير إنسانية. التخفيف من أعمال التوثيق المجاني يعود في الغالب لتوصيات الرعاة والممولين الدوليين، الذين نبهوا إلى خطورة توفير مواد اتهام حية حول دعاوى الانتهاكات من قتل واغتصاب وتعذيب، وهو ما قد يتم استغلاله كدليل إدانة يصعب على أي متداخل مع الشأن السوداني أن يغض الطرف عنه. مع ذلك، فإن القدر المتوفر مما تم بثه خلال شهور الحرب كافٍ لأن يدين كل صاحب ضمير هذه الأفعال، التي لا صلة لها بالحرب، أو بالاختلاف السياسي، خاصة أن أغلب هذه الانتهاكات استهدفت أشخاصاً أبرياء ومدنيين لا علاقة لهم بالصراع على السلطة، أو بأي تقسيم لموارد البلاد.
كانت هذه هي المرة الأولى، التي ينكشف فيها للعامة في الخرطوم ووسط السودان معنى «الجنجويد»، المجموعة العسكرية المرعبة، التي قامت بانتهاكات هزت ضمير العالم في إقليم دارفور. كان الناس حين يسمعون تلك القصص يظنون أن أصحابها يبالغون من هول تفاصيلها، فلم يكن من السهل تصور أن يقوم أي إنسان بذلك الكم من الجرائم دون أن ترمش له عين.
ما هي مسوغات هذه الجرائم، التي يقوم بها الجنجويد اليوم؟ هذا سؤال مهم، لكن أهم ملاحظة حول هذه القضية هو أن الميليشيا انتقلت من مرحلة الإنكار الأولى، المبنية على اعتبار أن كل ما يشاع عن انتهاكاتها هو محض اختلاق، إلى مرحلة الاعتراف بوقوعها، مع القول إن ما يحدث هو «مجرد تفلتات» يمكن إخضاع أصحابها للمحاسبة، وفق قاعدة أن الحرب مرتبطة بالضرورة بهذا النوع من الخروقات. الحديث عن المحاسبة، التي لم تحدث، والتي يستبعد إن حدثت أن تقود لمحاكمة أي فرد في الميليشيا، ناهيك عن قياداتها الميدانية، يهدف لكسب الوقت والإيحاء بالتعاون مع «المجتمع الدولي»، الذي يبدو، وهذا من المفارقات، حائراً ومحتاجاً إلى تكوين لجان ومراقبين على الأرض للتحقق من الانتهاكات، التي لا ينكر، حتى المتهمون بها، وقوعها. لنسلّم جدلاً بمنطق المتحالفين مع الميليشيا من السياسيين، ونعتبر أنها تعمل بجد من أجل الديمقراطية واستعادة الحكم المدني ومعاقبة قادة الجيش الفاسدين، فكيف يمكن لذلك أن يفسر سياسة التهجير والاغتصاب الجماعي، واستباحة مدن وقرى بأكملها، بل والقيام بأكبر عملية تخريب وتجريف اقتصادي وزراعي وثقافي شهدها السودان؟

الصورة تبدو قاتمة والصراعات الافريقية بلا نهاية، وكأن هذا هو القدر الأبدي للقارة السمراء، لكن الأكيد هو أن هذه الصراعات ما كانت لتستمر لولا أن هناك من يشعلها ويتحكم فيها

على الجانب الغربي المقابل من القارة الافريقية وبالتزامن مع تداول فيديو الفتاة المعذبة كانت هناك حادثة أخرى في بلدة بارسالوغو في بوركينا فاسو. في ذلك البلد، الذي يشكل المسلمون فيه ما نسبته 70% من عدد السكان، قامت مجموعة مسلحة بارتكاب مجزرة راح ضحيتها وفق بيان المجموعة نفسها 300 شخص، فيما تؤكد روايات محلية أن الضحايا هم ضعف هذا العدد. في محاولة لتبرير ما لا يمكن تبريره زعم الإرهابيون البوركينيون، أنهم كانوا في مواجهة مسلحين، المشكلة هي أنهم قالوا في البيان ذاته، إنهم حصلوا جراء هذه المعركة على 12 كلاشنكوف وسلاح دوشكا وآليتين عسكريتين، وهو مسوّغ غير مقنع بلا شك للهجوم على بلدة كاملة والقضاء على المئات من سكانها. يتشابه منطق الإرهابيين البوركينيين مع منطق الجنجويد من حيث وضع لافتة براقة لارتكاب الجرائم من تحتها، فإذا كانت جماعة حميدتي تتحدث بشكل مثير للسخرية عن استعادة المسار الديمقراطي، الذي تتخذ من دماء وأشلاء وممتلكات الأبرياء وسيلة للوصول إليه، فإن الجماعة التي تنفذ مثل هذه المجازر في بوركينافاسو، تطلق على نفسها اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، في أكبر إساءة للدين الإسلامي ولجميع المسلمين. مع اختلاف اللافتات، إلا أن الأسلوب واحد والانتهاكات متشابهة والتواطؤ الدولي، الذي يمنع دعم الجيش النظامي المقاوم للميليشيات نكاية في القيادة السياسية، لا يخفى. التستر على حجم الانتهاكات أيضاً موجود في أغلب الحالات، فربما لولا متابعتي الشخصية لكتاب وباحثين من بوركينافاسو تشاركوا نشر الصور المروعة، التي منها صور الجثث، التي تم جمعها في خندق كبير لكثرتها، لما سمعت بتلك المجزرة. بشكل عام لا تعطي وسائل الإعلام الأحداث الافريقية، مهما بلغت بشاعتها، الاهتمام الكافي، لإثبات ذلك يمكنك أن تتخيل الوضع لو أن إرهابياً مسلماً قتل مواطناً أوروبياً واحداً.
من التشابهات، التي يمكن الوقوف عندها، اتفاق هذه الجماعات على مبدأ العقاب الجماعي، فحينما اجتاح الجنجويد مدن وقرى وسط السودان، واستباحوها بشكل غير إنساني، قبل أن يقوموا بإذلال أهلها وبتصفية العشرات منهم، كان المبرر أن أولئك الضحايا ليسوا مجرد مدنيين أبرياء، وإنما متعاطفين مع الجيش أو يعملون كاستخبارات له، وهو اتهام بلا دليل بطبيعة الحال، لكنه كافٍ من أجل تنفيذ الإعدامات الميدانية الفورية. تظهر الصور أن المسلحين المزعومين، الذين شملتهم المجزرة في بوركينافاسو، كان بينهم نساء حوامل وأطفال رضع والتشابه الآخر المثير للغثيان، أن تلك الجريمة حدثت وسط تكبير الإرهابيين، تماماً كما هو الحال مع فظائع الجنجويد. لا الدفاع عن الإسلام ولا البحث عن الديمقراطية يسوغان مقتل الأبرياء والاعتداء عليهم. هذه هي الحقيقة، التي لا يختلف حولها أي إنسان سوي. تفسير مثل هذه الجرائم البشعة لا يخرج، وفق ما يظهر، من إطارين: الأول هو الدوافع العرقية المحضة، حيث يمثل الانضواء تحت هذه الجماعات ولافتاتها البراقة فرصة لتصفية الحسابات بين أفراد القبائل المتنافسة والداخلة في صراعات تاريخية، أما الثاني فهو أن هذه الجرائم مقصودة لذاتها من أجل خلق حالة عامة من الرعب والضغط على السلطة القائمة وإحراجها.
الوضع السوداني مثال جيد على النقطة الأخيرة، يحسب المتواطئون مع الميليشيا في البلد، الذي يشهد حرباً مروعة منذ ما يقارب العام ونصف العام، أن مزيداً من العنف قد يقود لإخضاع «المجلس السيادي» ورضوخه لأي شروط مقترحة لوقف الحرب، وإن كانت إعادة منح الشرعية لقوات حميدتي. من جهة أخرى فإن بوركينافاسو وجاراتها النيجر ومالي، حيث تزدهر صناعة العنف، مثال ثانٍ، فليس من المصادفة أن تتزايد هجمات الإرهابيين في هذه المنطقة بعد الخروج من العباءة الفرنسية. الصورة تبدو قاتمة والصراعات الافريقية بلا نهاية، وكأن هذا هو القدر الأبدي للقارة السمراء، لكن الأكيد هو أن هذه الصراعات ما كانت لتستمر لولا أن هناك من يشعلها ويتحكم فيها، بل ويمنحها الوقود الكافي، الذي يجعل نارها مشتعلة. لو نظرنا لخريطة المناطق «غير الآمنة» في القارة سننتبه إلى أنها تتشارك في كونها الأكثر ثراء من ناحية موارد الطاقة والمعادن، التي لم تكتشف، أو التي لم تتح الفرصة لأن يتم التنقيب عنها بشكل ينقل هذه الدول من مربع الاستدانة، وطلب العون إلى مصاف الدول المتقدمة. هذه الملاحظة، التي تفرض نفسها، والتي يعبر البعض عنها بلعنة الموارد، لا يمكن تجاهلها.
كاتب سوداني

Share this post