نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا استقصائيا سلط الضوء على منطقة دارفور في السودان، التي كانت مسرحا لإبادة جماعية قبل عقدين من الزمان، والآن تظهر مقاطع الفيديو الحصرية من هناك التعصب الأعمى وراء موجة جديدة من عمليات القتل.
كشفت الصحيفة عن عملية إعدام نفذتها ميليشيا في بيت صغير بين خيام النازحين في منطقة كساب بالسودان، وقد ظهرت امرأة في مقطع وهي تتوسل تطلب من المسلحين أن يقتلوها بدلا من أبنائها، فضربها مسلح بعقب بندقيته، وفقا لأحد المارة، ثم قاد المسلحون الإخوة الخمسة بعيدا. وبعد فترة وجيزة، أظهر مقطع فيديو جثث عدة رجال حفاة ممددين على وجوههم في الرمل، وأيديهم مقيدة خلفهم، والدماء تسيل على ملابسهم. وحدد شاهدان هوية جثث أخوين في اللقطات.
وقد تم توثيق عمليات القتل التي تشبه الإعدام العام الماضي في كساب، وغيرها في بلدة كُتُم المجاورة في منطقة دارفور بغرب السودان، في مقاطع فيديو ظلت غير منشورة حتى الآن – وهي دليل مرئي نادر على المذبحة التي تحدث بشكل روتيني في السودان حيث تقاتل قواتها المسلحة مجموعة شبه عسكرية، قوات الدعم السريع، في صراع تقدر الولايات المتحدة أنه أودى بحياة حوالي 500 ألف شخص.
وتقول الصحيفة إن عمليات قتل الشباب الذين شوهدوا في مقاطع الفيديو كانت جزءا من مذبحة قتل فيها ما لا يقل عن 73 شخصا، وفقا لسكان كُتُم ووكالة الأمم المتحدة للاجئين.
كشفت المقاطع المصورة عن الكراهية التي يكنها عناصر الميليشيات من الدعم السريع للسودانيين من أصول إفريقية والثمن الباهظ الذي يدفعه هؤلاء الضحايا نتيجة لهذا التعصب
كشفت المقاطع عن الكراهية التي يكنها عناصر الميليشيات من الدعم السريع للسودانيين من أصول إفريقية والثمن الباهظ الذي يدفعه هؤلاء الضحايا نتيجة لهذا التعصب، الذي يقول الضحايا إنه يغذي قدرا كبيرا من العنف الذي ترتكبه تلك الميليشيات ضد المدنيين، وبخاصة في دارفور.
في أحد مقاطع الفيديو، ظهر رجل مسلح يرتدي عمامة بيضاء يبتسم واقفا أمام جثتين ملطختين بالدماء لرجلين مجهولين: “التقطوا صورا! هذا انتصار للعرب! هذا انتصار للعرب!”.
وفي مقطع فيديو آخر، يسخر من رجل آخر يحتضر ويتدلى رأسه بينما تتجمع دماؤه في بركة تحته.
يعتبر حوالي 70% من السودانيين أنفسهم عربا، في حين ينتمي الباقون في المقام الأول إلى مجموعات إفريقية سوداء مثل الفور والزغاوة والنوبيين.
وتقول الصحيفة إن عمليات القتل في كساب وكُتُم، التي وقعت في حزيران/ يونيو 2023، بمثابة نذير لعمليات قتل جماعي أخرى للمدنيين من ذوي البشرة السوداء في الغالب على يد قوات الدعم السريع في مدن دارفور مثل نيالا والجنينة.
وقد أنكرت قوات الدعم السريع ارتكاب هذه الفظائع، التي وثقتها هيومن رايتس ووتش أيضا.
وتعلق الصحيفة أن الكثير من القتل حدث بعيدا عن أنظار العالم، حيث لا يسمح إلا لقلة من الصحافيين الأجانب بالسفر إلى السودان، وتظل اتصالات الإنترنت والهاتف نادرة.
وبينما يتهم الجيش أيضا بارتكاب انتهاكات، بما في ذلك على أسس عرقية، تقول جماعات حقوق الإنسان إن قوات الدعم السريع مسؤولة عن غالبية الفظائع.
يحدث الكثير من القتل بعيدا عن أنظار العالم، حيث لا يسمح إلا لقلة من الصحافيين الأجانب بالسفر إلى السودان، وتظل اتصالات الإنترنت والهاتف نادرة
وكشفت روايات الشهود ومقاطع الفيديو الدعائية لقوات الدعم السريع أن كبار قادة قوات الدعم السريع كانوا في منطقة كتم أثناء عمليات القتل.
وقال عزالدين الصافي، وهو مسؤول كبير في قوات الدعم السريع، إن الأبعاد العرقية للصراع أصبحت مبالغ فيها وإن الناس في كُتُم يعيشون الآن معا بسلام تحت إشراف قائد قوات الدعم السريع الذي ينتمي إلى قبيلة الفور.
وقال العديد من الناجين من المذبحة في كساب وكُتُم إن مهاجمي قوات الدعم السريع أطلقوا على المدنيين الأفارقة لقب “عبد”، وهي إهانة عنصرية.
وأدت هيمنة العرب في العقود الأخيرة على الرتب العليا في الحكومة والجيش، إلى مظالم بين الأقليات. وكانت وراء العديد من الانتفاضات في المناطق المهمشة. وأدى هذا السخط إلى حرب سابقة في دارفور، والتي أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص من عام 2003 إلى عام 2020. وخلال ذلك الصراع، تعاون سلف قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا عربية عرقية تُعرف باسم الجنجويد، مع الجيش لاستهداف المتمردين الأفارقة وعائلاتهم. كانت الهجمات ضد القبائل الإفريقية واسعة النطاق ومنهجية لدرجة أن المحكمة الجنائية الدولية قالت إنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
قال العديد من الناجين من المذبحة في كساب وكُتُم إن مهاجمي قوات الدعم السريع أطلقوا على المدنيين الأفارقة لقب “عبد”
هذه المرة، كانت الشرارة للحرب هي التنافس بين كبار الجنرالات. فقد انهار ترتيب تقاسم السلطة بين القائد العسكري عبد الفتاح البرهان وزعيم قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، في نيسان/ أبريل 2023.
وبعد اندلاع القتال، ظل المتمردون الأفارقة السابقون على الحياد في البداية، ولكن في تشرين الثاني/ نوفمبر، انحاز العديد منهم في النهاية إلى الجيش ضد قوات الدعم السريع.
في الأوقات الأفضل، كانت كُتُم معروفة بتمورها الحلوة والبرتقال والمانجو. يسقي السكان المحليون بساتينهم من جدول متعرج عبر المدينة. وعلى بعد ميل واحد خارج كتم يقع مخيم كساب، موطن العديد من العائلات الإفريقية التي نزحت خلال حرب دارفور السابقة ولم تعد إلى ديارها أبدا.
في العام الماضي، تصاعدت التوترات المحلية بعد مقتل ضابط عربي مشهور ونهب قاعدة لقوات الدعم السريع في المدينة والهجوم على بعض المحلات العربية، وكل ذلك في ظروف غير واضحة، كما قال السكان. وبعد أربعة أيام، تدفقت قوات الدعم السريع والمقاتلون العرب المتحالفون معها إلى المنطقة، وبعد يوم واحد من ذلك، هاجموا كُتُم وكساب.
ذكر ناشط حقوقي من كساب أن السكان فيه بدأوا بالفعل في حفر الخنادق وتكديس الحواجز الترابية خوفا من العنف العرقي. وتحققت مخاوف السكان المحليين. وقال الناشط إنه استيقظ ليرى مئات من قوات الدعم السريع والمقاتلين العرب على دراجات نارية وشاحنات يعبرون النهر الذي يفصل المخيم عن المدينة. وقال الناشط إن المقاتلين الذين منعتهم الحواجز، داروا غربا وهاجموا. وقال إن سكان المخيم حاولوا الفرار، لكن إطلاق النار كان كثيفا للغاية. وقتل أصدقاؤه بالرصاص أثناء اختبائهم أو أثناء ركضهم.
ومع تدفق قوات الدعم السريع والمقاتلين العرب المتحالفين من الغرب، وصلوا إلى باب المرأة التي لديها خمسة أبناء. وقال مزارع إن عائلة سليمان كانت من الزغاوة، وهي جماعة عرقية إفريقية قاتلت في السابق ضد الجنجويد، وكان الشباب في العائلة طلابا وخياطين أو تجار سوق. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 14 عاما. وقال أحد الأقارب إن المقاتلين سألوا عما إذا كان هناك أي رجال بالداخل. وقالت المرأة إنه لا يوجد رجال، لكنهم لم يصدقوها.
وقال أحد سكان المخيم إن المقاتلين كانوا يرتدون زي قوات الدعم السريع. وأضاف أن المرأة تعرضت للضرب على الأرض بعقب بندقية، ووقف ثلاثة من مقاتلي قوات الدعم السريع أمامها بينما كان الإخوة الخمسة من عائلة سليمان واثنان آخران يُقتادون بعيدا. وبعد لحظات سمعت طلقات نارية. وأضرمت النيران في منازل وخيام وأكوام من العلف. وأفادت الأمم المتحدة بأن 54 شخصا قتلوا في ذلك اليوم في كساب.
وفي بلدة كُتُم نفسها، قال عدد من السكان إن أفراد قوات الدعم السريع ورجال الميليشيات العربية قتلوا مدنيين ونهبوا منازل ومتاجر مملوكة لغير العرب.
وقالت إحدى النساء: “استمروا في النهب والقتل والاعتداء على الناس لمدة 15 يوما على الأقل. لقد أخذوا كل شيء: المال والمركبات والحيوانات وغيرها من الأشياء الثمينة. حتى أنهم جمعوا الدجاج”. وقال أحد السكان إن رجلا ضرب حتى الموت أمام زوجته وابنه البالغ من العمر عامين. وقال آخر إن قريبه البالغ من العمر 17 عاما قتل بالرصاص عندما حاول الفرار بعد اكتشافه في الحمام. وقالت مواطنة ثالثة إن قريبة لها تبلغ من العمر 65 عاما قُتلت بالرصاص أمام أحفادها بينما كانت تحاول منع المقاتلين العرب من دخول غرفة ابنها. وسجل السكان 19 حالة وفاة بين المدنيين في البلدة.
وحدد السكان عدة رجال كقادة لقوات الدعم السريع وجهوا الهجمات. ولا يظهر أي من مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها مع صحيفة واشنطن بوست هؤلاء الرجال.
وقعت معظم عمليات القتل في يوم واحد، لكن العنف المتقطع استمر لمدة أسبوعين تقريبا. وفي النهاية، طلب زعماء القبائل العرقية الإفريقية عقد اجتماع مع قوات الدعم السريع، مطالبين بحماية المدنيين. لكن زعماء القبائل قوبلوا بمزيد من العداء.
وتذكر أحد الحاضرين في الاجتماع أن رئيس الوفد العربي ـ وهو رجل يدعى الهادي حامد عبد النبي، الذي كان مدير التعليم في المنطقة ووالد ضابطين من قوات الدعم السريع ـ قال لزعماء القبائل: “هذه الأرض ليست للعبيد”. وفي مقابلة، نفى عبد النبي الإدلاء بهذا التصريح.
وقال أحد الحاضرين إن زعيما قبليا آخر من قبيلة الفور تحدى عبد النبي قائلا إن جميع الرجال متساوون، سواء كانوا أفارقة أو عربا. وأضاف: “‘كلنا من آدم، كلنا من تراب. كلنا من آدم. خلقنا الله’”. وأضاف: “لم يتراجع عن كلماته عندما أمره الجنجويد [قوات الدعم السريع] بذلك.. وفي اليوم التالي قتلوه”.
تناول (القدس العربي)