مخاوف ومطالب السودانيين بشأن مفاوضات وقف الحرب

فرضت الحرب المستعرة في السودان أجواء قاتمة يسودها القمع والاعتقال والتخوين ومصادرة النشاط السياسي والاجتماعي، ويتقلص فيها أو ينعدم التواصل العضوي المباشر بين القيادات السياسية وقواعدها الشعبية، في حين أن هذا التواصل هو أمر ضروري وأساسي لكي تبني هذه القيادات برامجها وتتخذ مواقفها السياسية بالاستناد إلى هموم الناس ونبض الشارع حتى لا تأتي هذه البرامج والمواقف مجرد تهويمات حبيسة شعارات معلقة في الهواء ولا علاقة لها بالواقع.
وبالضرورة أن يكون موضوع التواصل الرئيسي بين القيادات السياسية وقواعدها الشعبية في ظل أجواء الحرب الحالية، هو رؤى ووجهة نظر هذه القواعد الشعبية تجاه محاولات وقف الحرب عبر عمليات التفاوض التي تمت حتى الآن، وما يشوب هذا التفاوض من تعثر وصعوبات. ولكن، رغم الظروف غير المواتية هذه، فإن التغلب على صعوبة التواصل هذه صار ممكنا باستخدام وسائط التواصل الاجتماعي، شكرا للثورة التقنية الرقمية الحديثة، شريطة أن تتبنى الأحزاب والمؤسسات السياسية مناهج عمل تتماشى مع متغيرات العصر وتطوراته العاصفة.
ومن ناحية أخرى، واستنادا إلى حقيقة أن منظمات المجتمع المدني تملك من القدرات والإمكانات ما يؤهلها للعمل المباشر والملموس وسط القواعد الشعبية، وبالإشارة إلى قناعتنا الثابتة بأهمية وحتمية التكامل بين مهام هذه المنظمات والقوى السياسية، بمعنى استفادة الأحزاب والقيادات السياسية السودانية من النشاط الذي تقوم به هذه المنظمات وسط القواعد الشعبية، مثل التشبيك والاستطلاعات وقياسات الرأي، في بلورة مواقفها السياسية حتى تأتي استجابة لمطالب هذه القواعد، نتناول اليوم نتائج الاستطلاع الذي نفذته منظمة «كونفلكت داينمكس انترناشونال» داخل السودان وسط شريحة واسعة من المدنيين السودانيين، متنوعة من حيث العمر والجنس والتعليم والوضع الوظيفي ومواقع التواجد أو السكن، للتعرف على وجهات نظرهم حول محاولات التفاوض الجارية لوقف الاقتتال في البلاد.
الاستطلاع تم تنفيذه عبر تطبيق «الواتساب» في الفترة من يوليو/تموز إلى أغسطس/آب 2024، وكشفت نتائجه عن المخاوف الرئيسية بشأن العملية التفاوضية، وتحديدا دور الجيش بعد الحرب في الحكم والسياسة، بدءا من تشكيل الحكومة الانتقالية. كما كشفت عن تباين يتراوح بين نبرة حذرة ومحايدة غالبا إلى سلبية بعض الشيء إدراكا لتعقيدات الوضع الحالي، مع تأكيد الحاجة إلى عملية سياسية شاملة، والرغبة القوية في إيجاد طريق واضح نحو السلام والاستقرار.

ضرورة هنددسة عملية سلام شاملة تعالج الأسباب الجذرية للصراع، ومنها فرض العقوبات وحظر دخول الأسلحة مما يساعد في زيادة الضغط على طرفي القتال لوقف الأعمال العدائية، وضرورة وجود آليات لمحاسبة المسؤولين عن اندلاع الحرب

من نتائج الاستطلاع، كان واضحا تبني المجموعات السكانية المختلفة في السودان لوجهات نظر متباينة حول الهيكل السياسي المطلوب في البلاد مستقبلا، ولكن كل المجموعات التي شملها الاستطلاع أعربت عن العديد من المخاوف الأساسية والقلق العميق فيما يخص الوضع الحالي والمستقبل، وتحديدا علاقة الجيش بالسياسة في سودان ما بعد الحرب، مع رغبة واسعة النطاق في إعادة تقييم وربما إعادة هيكلة موقعه داخل الحكومة. وتتزايد هذه المخاوف بشكل خاص بين حملة الشهادات العليا والعاطلين عن العمل أو العاملين لحسابهم الخاص من الذين شملهم الاستطلاع. وبينما عكست نتائج الاستطلاع تمسك الجميع بالجيش الواحد في البلاد، إلا أنها أيضا عكست تشككا وخلافا حول كيفية معالجة أوضاع القوى المسلحة الموازية للجيش، كقوات الدعم السريع والمجموعات المسلحة الأخرى، من حيث حلها وتسريحها أو دمجها في المؤسسة العسكرية والكيفية التي ينبغي أن يتم بها هذا الدمج، وكيفية إصلاح وتطوير المؤسسة العسكرية في ظل حكومة يقودها المدنيون. وتجلى هذا القلق بشكل خاص بين حملة الشهادات العليا ممن شملهم الاستطلاع.
ومع إفصاح الجميع عن رغبتهم القوية في انتقال واضح ومنظم من الصراع المسلح إلى السلام المستدام، فإن الفئات العمرية الأصغر والمتوسطة ركزت على ضرورة التوافق الآن حول تشكيل حكومة انتقالية بدون أي محاصصات من أي نوع، مع ضرورة أخذ العبر والدروس من تجربة الحكومة الانتقالية التي شكلت بعد الثورة. وأكد جميع من شملهم الاستطلاع، خاصة النساء والمجموعات الأصغر سنا، على أهمية شمولية عملية السلام، وإنهم يرغبون في تمثيل جميع الأحزاب والمجموعات، خاصة الفئات المهمشة، في أي عملية سياسية متوقعة، مع التشديد بأن تفضي العملية السياسية إلى خارطة طريق واضحة لإقامة نظام سياسي جديد يعالج مشاغل جميع شرائح المجتمع السوداني، وليس فقط مشاغل النخب السياسية، ويؤكد على ضرورة مشاركة الشباب والنساء في تشكيل مستقبل السودان وبناء نظام سياسي يوفر مساحات حرة لوجهات النظر المتنوعة ويضمن المشاركة العادلة في السلطة والتقسيم العادل للموارد والثروة. وأكد المشاركون في الاستطلاع من مختلف الفئات العمرية والمستويات التعليمية عن تمسكهم بالحوار والمفاوضات السلمية، وبضرورة دخول كل المجموعات السياسية والمجتمع المدني والمجتمع الأهلي في مناقشات شاملة وجادة لإنهاء الحرب.
ولكن، أيضا شدد المشاركون في الاستطلاع من مختلف الفئات على أهمية آليات المساءلة والمحاسبة كمدخل لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع، ويشمل ذلك إعمال العدالة الجنائية والعدالة الانتقالية والمصالحات ومعالجة المظالم، خاصة تلك المتعلقة بملكية الأراضي.
وعلى صعيد آخر، شكلت ضمانات تنفيذ الاتفاقيات الناتجة من المفاوضات أمرًا بالغ الأهمية لدى جميع المشاركين في الاستطلاع، والذين عبروا جميعا عن إدراكهم بأن المفاوضات الناجحة يجب أن تؤدي إلى نتائج ملموسة، بما في ذلك المساعدات الإنسانية ووقف الأعمال العدائية. ومن زاوية أخرى، طرحت المجموعت المدنية القاعدية المشاركة في الاستطلاع عدة مطالب وتوقعات رئيسية من المجتمع الدولي للمساعدة في تحقيق السلام والاستقرار في السودان، منها أن يظل الحوار والتفاوض في قمة الأولويات كوسيلة أساسية لإنهاء الصراع، مما يعكس رغبة واسعة النطاق في التوصل إلى حل سلمي، ومنها ضرورة هنددسة عملية سلام شاملة تعالج الأسباب الجذرية للصراع، ومنها فرض العقوبات وحظر دخول الأسلحة مما يساعد في زيادة الضغط على طرفي القتال لوقف الأعمال العدائية، وضرورة وجود آليات لمحاسبة المسؤولين عن اندلاع الحرب، وبرز ذلك واضحا وسط النساء وحملة الشهادات العليا ممن شملهم الاستطلاع.

كاتب سوداني نقلا عن (القس العربي)

Share this post