السودان بين التدخلات الخارجية وتعقد الوضع الميداني… تعثر المفاوضات بين الفرقاء ينذر باستمرار الحرب

بعد مرور 16 شهرا مرت على اندلاع الحرب في السودان بين الجيش النظامي بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بزعامة حليفه ونائبه السابق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لا تزال مفاوضات التوصل إلى وقف إطلاق نار تراوح مكانها، إذ لم تفلح مساعي التهدئة التي أطلقتها عدة دول في وقف نزيف الصراع الذي خلف عشرات آلاف القتلى. وفيما يتقاذف طرفا النزاع التهم والمسؤولية بشأن عرقلة مسار محادثات السلام، تستمر الأزمة الإنسانية في التفاقم، وفق الأمم المتحدة التي تندد بعوائق تحول دون إتمام العمل الإنساني.

نساء يرددن شعارات أثناء مشاركتهن في مظاهرة في اليوم الافتتاحي لمحادثات وقف إطلاق النار في السودان، في جنيف، في 14 أغسطس 2024. انطلقت المحادثات التي ترعاها الولايات المتحدة بشأن الاتفاق على وقف إطلاق النار في الصراع المدمر في السودان في سويسرا. © أ ف ب

في محاولة لإنقاذ اتفاق جدة بين طرفي الصراع الدامي المستمر بالسودان، تحتضن القاهرة هذا الأسبوع جولة مفاوضات جديدة بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي) لبحث سبل تخفيف أثر الحرب المستعرة منذ 16 شهرا، بينما تستمر مفاوضات أخرى في جنيف برعاية أمريكية.

تأتي هذه المبادرة وسط تعثر مستمر تشهده المباحثات، رده مراقبون لأسباب داخلية مرتبطة بتطورات الوضع الميداني، وأخرى خارجية تتعلق بالأدوار التي تلعبها الدول المتدخلة.

ولإنهاء النزاع الدامي، انطلقت مفاوضات بين طرفي النزاع في 6 مايو/أيار 2023 بمدينة جدة بدعوة من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، ركزت على قضايا أساسية تروم أساسا تحقيق وقف فعال قصير المدى لإطلاق النار، والعمل على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية الطارئة، واستعادة الخدمات الأساسية، ثم وضع جدول زمني لمفاوضات موسعة لبلوغ وقف دائم للحرب.

وبعد جولتين اثنتين، تم تعليق المفاوضات في 2 يونيو/حزيران 2023 وأعلنت الرياض وواشنطن حينها أن ذلك جاء نتيجة “الانتهاكات الجسيمة” للتهدئة، إذ اتهمت الدولتان طرفي النزاع بأنهما “يدّعيان تمثيل مصالح الشعب السوداني، لكن أفعالهما زادت من معاناته وعرضت الوحدة الوطنية والاستقرار الإقليمي للخطر”.

وبعد توقف دام 5 أشهر، استؤنفت جولات التفاوض في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع استمرار المعارك في العاصمة الخرطوم، لكنها لم تسفر عن اتفاق يفضي إلى وقف إطلاق النار.

مفاوضات متعثرة ووضع معقد

وبعد أن باءت كل جولات التفاوض التي أجريت في جدة بالفشل، دعت واشنطن في نهاية تموز/يوليو الماضي الطرفين المتحاربين إلى جولة جديدة من المفاوضات في سويسرا أملا في وضع حد للحرب المدمرة. وترمي المناقشات إلى توسيع نطاق إيصال المساعدات الإنسانية وإيجاد آلية مراقبة وتدقيق لضمان تطبيق أي اتفاق.

وبينما قبلت قوات الدعم السريع الدعوة للمشاركة في المحادثات، أبدت سلطات السودان الذي يحكمه فعليا قائد الجيش، تحفظها على آليتها وعبرت عن اختلافها مع الولايات المتحدة بشأن الأطراف المشاركة.

وفق مراقبين، فإن رؤية الولايات المتحدة تشكل إشارة إيجابية، لكنها ليست كافية. واعتبارا لتعقيد الوضع، لم تنجح حتى الآن أي من المبادرات الرامية إلى جمع الأطراف الرئيسة حول طاولة واحدة.

في كل مرة يقترب فيها الطرفان من إحراز تقدم في المفاوضات، تصطدم هذه الرغبة بتمسك كل واحد منهما بالدفاع عن “مصالحه”، ما يجعل الدبلوماسيين عاجزين أمام هذا الوضع.

في المقابل، فإن هذا الأمر لا يعدم إمكانية بلوغ اتفاق ينهي الصراع الدامي، إذ إن هدف المحادثات ليس حل الصراع السياسي، ولكن التوصل إلى خطة لوقف إطلاق النار وتحسين إمكانية وصول المساعدات الإنسانية.

نقاط الخلاف

من بين أبرز نقاط الخلاف المرتبطة بالمفاوضات، تحفظ الحكومة السودانية على دعوة واشنطن لإجراء محادثات في جنيف، وعن اختلافها معها بشأن طبيعة المشاركين.

في هذا السياق، سبق أن احتجت الحكومة السودانية بقيادة الجيش غير مرة على إشراك الإمارات في حين تعتبر الولايات المتحدة أن أبوظبي والقاهرة يمكن أن تكونا “ضامنتين” لعدم بقاء أي اتفاق حبرا على ورق.

على غرار النزاعات الأخرى، تؤجج التدخلات الخارجية النزاع في السودان، وفيما يعتبرها البعض محاولات قد تساعد في حلحلة الصراع، يرى آخرون أنها جزء من المشكل.

الإمارات واحدة من الدول التي تواجه اتهامات بأنها الداعم الأساسي لقوات الدعم السريع، وهو ما تنفيه أبو ظبي. إذ في تقرير نشر شهر كانون الأول/يناير الماضي، ندد خبراء فوضهم مجلس الأمن الدولي بانتهاكات للحظر المفروض على الأسلحة إلى السودان مشيرين إلى دول عدة، من بينها الامارات المتهمة بإرسال أسلحة إلى قوات الدعم السريع.

مصر التي تبدو من جانبها أكثر ميلا إلى دعم الجيش بالرغم من أنها تشارك الإمارات توجهاتها الجيوسياسية الإقليمية، تحاول الاحتفاظ بنفوذ في الملف السوداني.

أما إيران التي استأنفت في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 علاقاتها الدبلوماسية مع السودان بعد قطيعة امتدت أكثر من سبع سنوات؛ فهي متهمة هي الأخرى ببيع مسيرات للسودان، ما عزز بشكل واضح دور طهران في النزاع، ليكمل دور روسيا التي كانت تساند في بداية النزاع قوات الدعم السريع، غير أنها بدأت إعادة حساباتها مع تطور العلاقات بين البرهان وحليفها الإيراني، خصوصا مع اهتمام موسكو منذ زمن طويل بميناء بورتسودان الاستراتيجي الذي بات الآن مقرا للجيش والحكومة.

صورة تظهر النساء والأطفال الرضع في مخيم زمزم للنازحين بالقرب من الفاشر في شمال دارفور، السودان. يناير/كانون الثاني 2024. © رويترز

وفي نهاية أيار/مايو، أكد ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش السوداني أنه تمت الموافقة على طلب موسكو بإقامة “قاعدة” على البحر الأحمر “مقابل إمداد عاجل بالأسلحة والذخائر”.

وتؤاخذ القوات الحكومية المجموعة شبه العسكرية عدم تنفيذها الشروط الأساسية لإعلان جدة، مثل سحب مقاتليها من منازل المدنيين والمرافق العامة.

وسبق للبرهان أن ذكر سابقا أن “العمليات العسكرية لن تتوقف إلا بانسحاب آخر عناصر الميليشيات من المدن والقرى التي نهبوها واستعمروها”. في المقابل، نفت قوات الدعم السريع الاتهامات بالنهب والعنف ضد المدنيين.

من جانبها، رحبت مجموعات سياسية ومدنية سودانية برفض الحكومة المشاركة في محادثات جنيف مع قوات الدعم السريع حتى يتم تنفيذ اتفاق جدة. وفي بيان مشترك صدر بعد اجتماع في بورتسودان عقب الأسبوع الماضي، جدد 12 تحالفا وحزبا سياسيا، بما في ذلك الكتلة الديمقراطية، وقوى الحركة الوطنية، وفصيل من حزب المؤتمر الشعبي، والطرق الصوفية، وبعض لجان المقاومة، تأكيد دعمها للجيش.

وأكد المشاركون على ضرورة تنفيذ إعلان جدة الموقع في مايو/أيار 2023، واستنكروا نقل المفاوضات من جدة إلى جنيف، ورفضوا أي محاولات لإعادة دمج قوات الدعم السريع في الحياة السياسية، وأشادوا بموقف الحكومة والدعم الإنساني من بعض الدول العربية.

ملامح البنية الداخلية

وفق الباحث المختص في الشأن السوداني، محمد تورشين، فإن المسألة معقدة تتداخل فيها عدة عوامل أسهمت بشكل أو بآخر بشكل مباشر في فشل كل جولات المفاوضات، “بل حتى مباحثات جنيف الحالية في طريقها إلى الفشل بالرغم من محاولات الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ومصر وحتى حكومة الوحدة الوطنية الليبية للتوسط”.

يضيف المتحدث “في تقديري فإن العامل الجوهري في عدم قدرة تلك الأطراف الفاعلة على إحداث اختراق في الملف السوداني يعود إلى سبب داخلي مرتبط بشكل وثيق بغياب طرف منتصر وانتصار بين وواضح يضعف القوة العسكرية للطرف الآخر، وبخاصة أن الدعم السريع فشل تماما في ذلك، علما أن خطته كانت الاستيلاء على السلطة في فترة وجيزة لا تتجاوز الأيام الثلاثة. وفي الجانب الآخر، استطاع الجيش أن يصمد أمام الهجوم الأول للدعم السريع لكنه لم يكسر شوكة المجموعة التي ظلت قوة صلبة.

هذا الأمر سمح لقوات لدعم السريع بأن يعيد النظر في خطته العسكرية وقواعد الانتشار بعدد من المدن والقرى، ما أسهم بشكل مباشر في تعزيز موقعه العملياتي ميدانيا. هذا التعزيز للمواقع وفق تورشين لا يمكن للدعم السريع أن يتنازل عنه بأي حال من الأحوال.

من جهة أخرى، فإن من بين أصول الخلاف وفق المصدر هو مسألة دمج الدعم السريع في الجيش السوداني خلال فترة زمنية أو قيد زمني واضح للطرفين، إذ كان الجيش في بادئ الأمر يتحدث عن فترة قصوى لا تتجاوز العامين، لكن الدعم السريع تتحدث عن مدة 20 عاما، وهذا يشكل بونا شاسعا.

في محاولة جديدة لتدارك الوضع وإنقاذ مسار المفاوضات، وبالتزامن مع تواصل مفاوضات جنيف، أعلنت الحكومة السودانية الأحد أنها قررت إرسال وفد إلى القاهرة لبحث “إنفاذ اتفاق جدة” بشأن تخفيف أثر الحرب المستعرة. وأفاد مجلس السيادة الانتقالي في بيان أنه “بناء على اتصال مع الحكومة الأمريكية ممثلة في المبعوث الأمريكي إلى السودان توم بيرييلو، واتصال من الحكومة المصرية (…) سترسل الحكومة وفدا إلى القاهرة”.

وأوضح المجلس في بيانه أن زيارة الوفد الحكومي السوداني هدفها “مناقشة رؤية الحكومة في إنفاذ اتفاق جدة”. ولم يحدد البيان موعدا للزيارة.

نساء من السودان. © صورة ملتقطة من شاشة فرانس24

ميزان القوى

ترى زينب محمود الضي، عضو الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن قبول قوات الدعم السريع الجلوس إلى مائدة الحوار، هدفه الحفاظ على المكاسب التي حققها، فيما يسعى الجيش هو الآخر إلى كسر شوكة قوات حميدتي وكبح تمددها لتكون في موقع قوة خلال جلسات المفاوضات.

وفق تورشين، ظهرت بعد اندلاع الحرب خطابات وسرديات جديدة، خاصة من جانب قوات الدعم السريع فيما يتعلق بتحقيق الديمقراطية ومحاولة إقرار العدالة في السودان، هذا الأمر يشكل سببا في الحفاظ على توازن القوى لدى الطرفين، وينعكس بشكل مباشر على مسار المفاوضات.

الأمر الثاني أيضا الذي حال بشكل مباشر دون التوصل إلى هدنة أو إيقاف الحرب في السودان هي مسألة الوساطة حسب المتحدث، فهي في تقديره “لم تكن جادة، بما في ذلك مقترحات الولايات المتحدة الأمريكية التي أعتقد أنها باتت متحفظة بشكل أو بآخر إزاء الأوضاع السياسية والعسكرية في السودان”.

هذا التحفظ بسبب وجود عناصر من الحكومة تدين بالولاء للمؤتمر الوطني الذي يتبنى إيديولوجية إسلامية، دفع الولايات المتحدة أحيانا وفق المتحدث إلى تبني سردية الدعم السريع، الأمر الذي لا تنظر إليه واشنطن بعين الرضا بل وتعتبره تهديدا لمصالحها يحول دون تمريرها لأي أجندة في القرن الأفريقي في ظل وجود جيش لا يدين لها بالولاء، ويضيف مفسرا “لذلك كان القادة الأمريكيون يظنون أن الحرب قد تستمر لفترة وجيزة، ثم تتمكن بعدها بلادهم من إعادة النظر في تشكيل الجيش حتى يتسنى لها تمرير أجندتها، لكن حدث خلاف ذلك.”

ويخلص تورشين إلى أن الولايات المتحدة تسعى من خلال مبادراتها لإلقاء حجر في بركة المفاوضات نظرا لدخول إيران وروسيا على الخط، وهو ما يثير مخاوفها هي وشركائها الإقليميين والدوليين.

حمزة حبحوب

Share this post