وبخلاف الآثار المادية التي أفرزتها الحرب على مستوى التقتيل والإعاقة والأسر وتخريب البنية التحتية، قادت كذلك إلى واقع اجتماعي خطير تتصاعد فيه خطابات الكراهية والعنصرية وتتفشى فيه حالات العوز والتفكك الأسري والإصابة بالصدمات التي تنتج بدورها الاكتئاب والقلق وغيرها من المشاكل النفسية بالغة الخطورة والتعقيد.
ويقول الخبراء، أنه عند إندلاع الحرب والنزاعات المسلحة في بلد ما يتنوع الأذى الذي يصيب الإنسان بين فقدانه لأحبابه ليصل إلى فكر وأخلاقيات المجتمع والكوارث والويلات المتلاحقة للفساد الأخلاقي والانتهاكات لكل معاني الإنسانية.
ويعيش السودان منذ منتصف نيسان/ابريل العام الماضي، حربا مشتعلة بين الجيش وقوات الدعم السريع بدأت في العاصمة الخرطوم وسرعان ما تمددت إلى مناطق أخرى في دارفور وكردفان غربي السودان والجزيرة وسنار وسطه، مخلفة آلاف القتلى والمصابين بين المدنيين وملايين النازحين واللاجئين الذين فقدوا منازلهم وساءت أوضاعهم بصورة مفاجئة.
صدمات نفسية وذاكرة ممتلئة بالخوف
تقول الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم لـ«القدس العربي» إن الحرب في البلاد أثرت على المجتمع بشكل عام والأسرة السودانية على وجه الخصوص وتمثل ذلك في تصاعد خطاب الكراهية بين المجموعات الإثنية والصدمات النفسية للأفراد الذين عاشوا في مناطق القتال والنازحين.
أروى ناصر طالبة جامعية، قالت: «كنت في الخرطوم في ايار/مايو العام الماضي، كانت المعارك تدور أمام منازلنا بحي الخرطوم 2. لا أستطيع أن أتخلص من ذاكرتي لمشاهد الدماء والجثث المتناثرة في الطرقات أثناء إجلاءنا إلى مناطق جنوب المدينة التي كانت أكثر آمناً آنذاك».
وتستدرك أروى: «كانت هناك جثة مبتورة الأطراف ملقاة على الطريق بجوارها جثتان لشخصين مدنيين داخل سياراتهم، هذه المشاهد لا أستطيع نسيانها».
وتضيف: «قبل خروجي كنت أفكر في الطريقة التي سأموت بها، كان الرصاص وقذائف المدفعية المرعبة تتساقط من كل جانب قلت لحظتها أنها النهاية، والآن ورغم مغادرتي إلى مكان آمن تنتابني حالة من الخوف وإحساس بعدم الاستقرار».
دور الإيواء وغياب الأفق
ولاشك أن حرب السودان التي عصفت بالملايين من الأبرياء وقلبت حياتهم رأساً على عقب وشردت أغلبهم إلى دور الإيواء ومعسكرات اللاجئين أفرزت آثارا نفسية قريبة المدى وأخرى بعيدة، فيما يمثل القلق متلازمة أصابت الكثيرين نسبة لاحتفاظهم بذكريات ومشاهد عنيفة وغير معتادة وتتمظهر في بعض الأحيان في أعراض الاكتئاب والخوف والتوتر والإحباط والأرق.
في دار الإيواء الكائن بمدرسة «نهر النيل» في حي أمبكول وسط مدينة عطبرة شمالي السودان، صادف مراسل «القدس العربي» باحثات اجتماعيات ومرشدات نفسيات متطوعات يقدمن الاستشارات للنازحين والنازحات، قالت إحدى الباحثات إن لديهم إحصاءات بأعداد كبير لفارين من الحرب اصيبوا بصدمات نفسية، محذرة بأن إهمال الأعراض النفسية التي تصيب النازحين والمتأثرين بالحرب قد يقود إلى مشاكل معقدة تستمر لسنوات طويلة.
وترى ثريا إبراهيم، أن نزوح الأسر أو بعض أفرادها يضعها مباشرة في تحد كبير، لأن التحرك المفاجئ من المناطق التي حدثت فيها نزاعات مسلحة والوصول إلى دور الإيواء محاط بمصاعب جمة منها الجوع والإضرار الصحية خاصة لأصحاب الأمراض المزمنة من كبار السن.
وتمضي بالقول: «هناك أشخاص مشوا مسافات طويلة سيراً على الأقدام هربا من الاقتتال والانتهاكات ووثقت حالات وفاة لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة».
وتتابع: «تتباين درجات تحمل الناس، بعضهم لا يتحملون الخوف الشديد وتحدث لهم مشاكل نفسية مثل الكوابيس والاضطرابات السلوكية والنفسية والتبول اللإرادي الناتج عن الهلع بالنسبة للأطفال».
وتشير إلى أن عدم الاطمئنان نفسه يمكن أن يخلق اضطرابات سلوكية وآثارا نفسية بعضها وقتي وأخرى يمكن أن تستمر مع الشخص لفترات طويلة وهذا يحتاج إلى علاج وتأهيل نفسي واجتماعي عبر جلسات الاستشفاء.
وتعتقد الباحثة الاجتماعية، أن النازحين الفارين من جحيم الحرب، سواء مستضافين مع أقاربهم أو متواجدين في دور الإيواء فهم يتعرضون لمشكلات عديدة لأنهم لا يعيشون في وضعهم الطبيعي ويحنون على الدوام لمناطقهم ومنازلهم وذكرياتهم فيها. بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية المرتبطة بالفقر وفقدان الأعمال والوظائف والآثار الاجتماعية المترتبة على ذلك.
غياب الأفق والإحساس بعدم وجود حل أو توقيت لنهاية الأزمة يدخل كما تقول إبراهيم بعض النازحين في حالات قلق واكتئاب.
ويلاحظ أن الحرب غيرت مسار حياة العديد من الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم يضطلعون بأدوار أخرى في أسرهم، وفي هذا الصدد هناك أمهات كثيرات أصبحن يشغلن دور الآباء، بينما اضطر أطفال إلى لعب دور معيل العائلة.
قالت أمونة الحاج: «كنت أعمل معلمة في الخرطوم، بعد اندلاع الحرب توقفت المدارس ومباشرة أوقفت الدولة المرتبات، واضطررت لبيع الطعام في سوق عطبرة حتى أوفر المال لأبنائي – بنتين وابن صغير في السن – بعد وفاة والدهم قبل فترة قصيرة من اشتعال الحرب».
وأضافت: «شقاء العمل ليس مشكلة، المشكلة الكبيرة حين يسألني أطفالي الصغار متى نرجع بيتنا ونغادر دار الإيواء؟».
ويشار إلى أن أزمة النزوح في السودان تعد الأكبر من نوعها على مستوى العالم، إذ تقول منظمة الهجرة الدولية إن نحو 10.7 مليون شخص نزحوا بسبب النزاع المسلح منهم 9 ملايين داخل البلاد بينما فر 1.7 مليون آخرين إلى دول الجوار.
أزمات أسرية
وازدياد معدل الطلاق
وذهب مراقبون إلى أن الضغوط النفسية الناتجة عن الحروب تؤدي في بعض الأحيان إلى تفكك العائلات وحدوث أزمات أسرية وزيادة المشاكل بين الزوجين وتفاقم العنف الأسري إلى جانب إهمال تربية الأولاد والاعتناء بهم.
مزمل محمد علي، استضاف إثنين من أبناء عمه بأطفالهم وأزواجهم في منزله بمدينة ودمدني وسط السودان قبل سيطرة الدعم السريع عليها، يحكي عن تلك التجربة لـ«القدس العربي» قائلاً: «استضافة الأقارب هي إحدى السمات المميزة في المجتمع السوداني، لكن الأوضاع التي خلقتها الحرب عقدت تلك المسائل. أعمل موظفا في الحكومة التي توقفت عن صرف المرتبات ولا أمتلك أي مدخرات، في بعض الأحيان أذهب للعمل في السوق وأعرض بضائع بسيطة لكن ذلك لا يسعفني في إكرام ضيوفي وأحس بالحرج، بالمقابل يحس كذلك أبناء عمومتي بالحرج لعدم مساهمتهم في الإنفاق بعد أن هجروا أعمالهم في الخرطوم».
وأضاف: «عندما طالت المدة لاحظت أن هناك ازديادا في الحساسية، إذا طلب من أحد أطفال أبناء عمي عدم الإزعاج مثلا يتعامل معك البقية كأنك تعبر عن رفضهم ومكوثهم في المنزل وهذا قطعاً لا يمكن أن يصدر مني».
وبدورها أوضحت إبراهيم ازدياد معدلات الطلاق بعد اندلاع الحرب في السودان وعزت ذلك لعدم الاستقرار والانقلاب الذي حدث في أنماط الحياة وما تخلفه من ضغوط بالإضافة لعدم وجود خصوصية في دور الإيواء للأزواج لمناقشة تفاصيلهم الحياتية والمعيشية، مبينة أن ذلك يقود بدوره إلى ازدياد الحساسية بين الأزواج وتفاقم المشاكل الصغيرة التي تؤدي للطلاق.
الانفصال القسري
ويذكر أن غالبية النازحين إما هم مستضافون لدى أقاربهم وأصدقائهم في المناطق الآمنة أو متواجدون في دور الإيواء وفي كلا الحالتين تنعدم الخصوصية والظروف الطبيعية للحياة الزوجية.
قال فواز جعفر وهو فني كهرباء، أنه منذ أكثر من عام يعيش حالة انفصال قسري عن زوجته، مشيراً إلى سكنه في إحدى الفصول في مدارس الإيواء الذي يضم بالتشارك أسرا أخرى وهو الأمر الذي منعه من ممارسة حياته الطبيعية.
حرب مركبة والحشد
على أساس القبيلة
المتابع لمجريات حرب السودان يكتشف أنها حرب مركبة ومتعددة الأجندة والأطراف المتقاتلة التي يحاول بعضها إعادة تعريف القتال ودوافعه تحت طابع جهوي بهدف حشد مزيد من الجنود وإذكاء المشاعر العنصرية لهزيمة الطرف الآخر.
بعض قادة الدعم السريع مثلا خرجوا في مقاطع مصورة قالوا إنهم يستهدفون في حربهم شمال السودان وقبائل الشايقية والجعليين والدناقلة الذين حسب إدعائهم نهبوا موارد البلاد منذ الاستقلال.
في حين يحاول بعض مناصري الجيش إلحاق جرائم النهب التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بقبيلة الرزيقات التي ينتمي لها قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» وأعداد كبيرة من جنوده.
كما ذكرنا آنفاً أن الحرب نفسها مركبة، ففي غرب دارفور مثلا يوجد صراع بين الجيش والدعم السريع، لكن بالمقابل كان هناك صراع أعنف وغبائن قديمة بين مجموعات من القبائل العربية وقبيلة المساليت، وحين اندلعت الحرب تجدد ذلك الصراع وحدثت المجازر المروعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وميليشيات القبائل العربية المتحالفة معها في حق الطرف الآخر.
وينسحب نفس المشهد في مناطق أخرى في دارفور وكردفان، كذلك تصاعدت المطالبات بالثأر في ولايتي الجزيرة وسنار بعد استباحتهما أيضا من الدعم السريع، وإلى ذلك يتخوف متابعون من أن تتمدد التوترات العرقية وتؤدي إلى صراعات مستمرة وانقسامات عديدة ومختلفة لا تحمد عقباها بما فيها الدخول في مربع الحرب الأهلية الشاملة بين المجتمعات السودانية.
في السياق تقول إبراهيم إن خطاب الكراهية أصبح متصاعدا في السودان ليس على مستوى الجهات المتقاتلة فحسب وإنما كذلك على مستوى الخطاب السياسي العام وعدم تقبل آراء البعض، مبينة أن ذلك يلاحظ في مواقع التواصل الاجتماعي والتراشق بالإساءات والألفاظ حين تتعارض الآراء.
وأكدت على أن القبائل السودانية لا ذنب لها ولا تحمل وزر هذه الحرب، إلا أنها أوضحت في الوقت نفسه أن القتال الدائر والآثار المصاحبة له أظهرت أن هناك سودانيين لا يحبون بعضهم البعض ولا يتقبلون الآخر.
اللاجئون والمأساة
المختص بقضايا الاجتماع والنزوح عاطف يوسف قال لـ«القدس العربي»: «رغم أن الحرب أيقظت مسألة العنصرية ونفضت الغبار عن غبائن اجتماعية تاريخية لكنها ستؤدي دوراً مهما في نهاية المطاف في عملية تعزيز التماسك الاجتماعي بين السودانيين».
وبين أن هناك دلائل وشواهد كثيرة على ذلك، فعلى سبيل المثال الحملات والجهود التي قام بها اللاجئون ضحايا الحروب في السودان المنتشرين في دول المهجر وشكل الخطاب الواعي الذي ينتشر بينهم في منصات التواصل الاجتماعي ومحوره الأساسي الدعوة إلى السلام ونبذ الحرب والتذكير الدائم بمآلاتها السيئة، معتبراً أن ذلك خطاب في سياقه العام يعبر عن وجود نضج مرحلي وحقيقي وتحول كبير في الذاكرة الاجتماعية والجماعية بالنسبة إلى اللاجئين السودانيين.
ورأى أن هذا الخطاب سيصب في عملية التهدئة الاجتماعية ويقوي من وشائج اللحمة الوطنية، لأن الظروف التي ساهمت في تشكيل ذلك الوعي عاشها الجميع من مكونات المجتمع السوداني.
ولفت إلى أثر اجتماعي آخر على اللاجئين السودانيين بسبب هذه الحرب وهو سرعة التكيف فيما بينهم ومع ظروفهم وتقبلهم لبعضهم البعض، وهو التحدي الذي فشلت في تحقيقه الأحزاب الوطنية طوال تاريخها، عززت تماسكه آلة الحرب خاصة الأجسام المهنية والأكاديمية وكثير من منظمات المجتمع المدني التي نشأت في ظروف هذه الحرب.
ويعتقد يوسف أن الأنشطة التي يقوم بها النازحون واللاجئون في مجملها تعكس رغبة السودانيين في بناء وتأسيس مجتمع ناضج ومتجاوز للاختلافات العرقية والثقافية، يحترم قيم التعدد ويعترف بها.
وقال إن اللاجئين يساهمون بدرجة كبيرة في توحيد النسيج الاجتماعي خصوصاً وأنهم خاضوا تجربة فريدة في بلدان اللجوء وواجهوا تحديات صعبة للغاية، عاشوا تفاصيل الجرح والمأساة والألم بصورة متساوية، بالتالي سيتنامى لديهم الشعور والحس الوطني المشترك.
وجزم بأن خريطة المجتمع السوداني التي ستتشكل بعد هذه الحرب سيكون اللاجئون وجموع الشتات هم النواة الحقيقية لمجتمع السودان الجديد، سودان ما بعد الحرب، وسودان التعدد والثقافات المتنوعة.