صور ومشاهد لا نراها عادة في تغطية إعلامية كلاسيكية للأحداث الرياضية. صور رصدناها الأحد في محيط المواقع الأولمبية الباريسية وبداخلها، من خلال جولة تحمل طابعا استكشافيا متواضعا. وتهدف إلى الحديث عن الرياضة عبر سرد يشبه الرواية.
أمام تعدد المنافسات في الألعاب الأولمبية باريس 2024 وتنوع أماكن الحدث الرياضي، لديك خياران لا أكثر: حجز مكانك في أحد المواقع الباريسية أو الانتقال من بعضها إلى الأخرى ورصد الصور الحية والتعليقات الملفتة. بدت الجولة بمعالم ضبابية، وافتقدت لأي خطة مسبقة، فانطلقت بعفوية وارتجالية من موقع “أرينا بيرسي” حيث تجري منافسات الجمباز، في صباح الأحد، اليوم الثاني من منافسات ألعاب 2024.
بدأت الجولة بخطى بطيئة وثابتة، في شوارع حركتها ضعيفة، تحمل أعراض أمطار غزيرة تهاطلت عليها طوال السبت، غداة حفل افتتاح ساحر أقيم على مياه نهر السين. لكن الشمس سجلت عودتها القوية وأشرقت لتضيء بأشعتها مدينة “الأنوار” النائمة بعد ليلة جنونية احتفلت خلال ساعاتها بأول ميدالية ذهبية للوفد الفرنسي انتزعها منتخب الرغبي السباعي من عمالقة منتخب فيجي (الذي لم يخسر أي مباراة منذ 2016 وإشراك هذه المسابقة في الألعاب الأولمبية).
بدت الشوارع المؤدية لـ “أرينا بيرسي” شبه خالية، وعليك أن تمر بين الحواجز الأمنية لبلوغ القاعة وسط تشجيعات ونصائح الشباب المتطوعين المرحبين بالزوار وبينهم رومان، الجالس على كرسي عالي وبين يديه مكبر صوت. “مرحبا بكم، تفضلوا، استمتعوا…”. بشوش هذا الرجل العشريني، الذي سيظل في مكانه لساعات قبل أخذ قسط من الراحة. سألناه “من أنت” فأجاب: “مجرد ناشط ثقافي، أمارس مهنتي بحب، وجئت إلى هنا لإضفاء جو من البشاشة والاسترخاء حول الألعاب”.
رومان آخر محطة قبل دخول “أرينا بيرسي”، فهل من مشجعين؟ يسود الهدوء في محيطها القريب وبداخل أسوارها، فتتقدم وترى الناس منشغلين وراء أبواب موصدة يراقبها متطوعون آخرون بين نساء ورجال، وما إن تم فتحها حتى انكشف الديكور الجميل: صور وملصقات في كل مكان، بساط متنوع الألوان حسب تنوع فئات التنافس ولباس المتنافسات، أضواء كاشفة باهرة.. ومدرجات مكتظة بالجمهور.
لم تعد هناك نادية كومانتشي (إحدى أكبر لاعبات الجمباز عبر التاريخ) على البساط، لكن وفدا بلديها (رومانيا والولايات المتحدة) في هذه الرياضة هي من أبرز الوفود المشاركة. ومع مر المنافسة، ازداد تشويق الجمهور لمشاهدة النجمة الأمريكية سيمون بايلز (27 عاما) صاحبة أربعة ألقاب أولمبية، والتصفيق لحركاتها المتميزة. فدخلت مع زميلاتها الأمريكيات وسط هتافات الجمهور، ودخلت إلى جانبهن شابة فرنسية جزائرية اسمها كيليا نمور وعمرها 17 عاما، تسعى لكسب ميدالية في هذه الألعاب تهديها للجزائر، وطن والدها الذي سارع لإعطائها الجنسية الرياضية (الجزائرية) بعد أن تخلى عنها الاتحاد الفرنسي للعبة إثر خلاف قانوني مع فريقها.
معلم فاخر وكبير في قلب العاصمة الفرنسية
ستواصل كيليا نمور مواجهة منافساتها بقدر ما استطاعت وسيحدد مصيرها في الألعاب قبل نهاية الأسبوع، لكن مشاركتها ناجحة مهما كانت نتيجتها، وأمامها والجزائر مستقبل واعد، لا شك في ذلك.
تقودنا الجولة إلى محطة ثانية، إلى معلم فاخر وكبير في قلب العاصمة الفرنسية، غير بعيد من جادة الشانزليزيه. الحديث عن قصر تم تشييده لاستقبال معرض باريس الدولي في 1900 واستفاد على مر الأزمنة من أحدث التقنيات ووسائل الترويج حتى أصبح معروفا في العالم أجمع، يبهر الزوار بسقفه الزجاجي: إنه القصر الكبير.
فهنا، تزاحم وضجيج، أقدام متسارعة وأصوات متعالية، جمهور وسياح من مختلف الأقطار، وداخل هذا القصر دوّن المبارز التونسي فارس فرجاني مساء السبت اسمه في تاريخ الألعاب الأولمبية عندما فاز بفضية مسابقة الحسام.
الوصول إلى القصر الكبير يستدعي الصبر والمشي
يستدعي الوصول إلى القصر الكبير الصبر والمشي لوقت طويل لأن المنعرجات كثيرة وقوانين السير صارمة بقدر ما هو صارم دفتر الشروط التي يجب على البلد المضيف للألعاب الأولمبية احترامها للحصول على شرف الضيافة. ففي القصر الكبير، كل شيء كبير، وهو يستقبل منافسات المبارزة والتايكواندو. وحضر حشود الفرنسيين لمؤازرة أبطالهم وقدموا لهم الدعم لكن إزاورا تيبوس خرجت منذ الدور الأول على يد البولندية جوليا بالتشيك وإيفا لاشريه خسرت أمام الإيطالية المصنفة أولى أريانا إيريغو.
إلا أن الأهم هنا هي المنافسة والإثارة، والتمتع بأجواء أولمبية غابت عن باريس منذ قرن من الزمن (1924). ولدى مغادرة القصر الكبير، يبقى جمال المكان وصور الأعمدة العالية في الذاكرة، حتى نشق الطريق لمعلم ثالث: “أرينا جنوب باريس” (قصر المعارض بورت دو فرساي).
فالموقع معروف لدى الباريسيين والفرنسيين بشكل عام إذ إنه يستضيف العديد من المعارض سنويا أبرزهم معرض الزراعة الذي يستقطب نحو 500 ألف زائر في كل مرة. وبمنسابة ألعاب 2024 تحول لمعرض رياضي حيث تجري منافسات كرة اليد وكرة الطائرة. وكان منتخب فرنسا في مواجهة نظيره الصربي في منافسات المجموعة الأولى.
الرياضة لنسيان السياسة
كانت الفرصة مواتية لاكتشاف وجه مخالف لهذا المكان المألوف، وتحولت فضاءات العرض لملاعب مصنوعة من المعدن يسهل تفكيكها بعد نهاية الألعاب.
كان لهذه الجولة عبر المواقع الأولمبية جانب استكشافي لمدينة منهكة تريد نسيان الغموض السياسي الذي يسود فرنسا منذ حل الجمعية الوطنية في 9 يونيو/حزيران وانتخاب نواب جدد في 7 يوليو/تموز من دون أن يحرز أي معسكر غالبية تسمح له بتشكيل الحكومة، ما تسبب في انسداد سياسي لا يزال قائما. وتريد هذه المدينة أن تغوص في حلاوة الإثارة الرياضية وتهتز لإنجازات أبطال العالم الذين قصدوها من كل فج عميق.