خطر هلاك السودان – عبد الحليم قنديل (القدس العربي)

أكتب هذه السطور عشية اجتماع القاهرة لدول جوار السودان، ونخشى أن تنتهي سيرة الاجتماع الجديد إلى ما انتهت إليه اجتماعات أديس أبابا وجدة من قبلها، فلم تصمت المدافع، ولا هدأت الحرب المهلكة في شوارع الخرطوم بمدنها الثلاث، ولا توقف امتداد الشرارات الدموية غربا إلى ولايات دارفور، وإلى شرق السودان ووسطه في كردفان وولاية النيل الأزرق، مع فشل مزمن في تطبيق اتفاقات وقف إطلاق النار، ورهان لا يتحقق على حسم طرف للحرب بالقوة العسكرية، وذهاب لإشعال الحرائق في هشيم التنوع العرقي والقبلي، في بلد شاسع المساحة عظيم الموارد، وجوار متفجر بحروبه الأهلية الطاحنة من ست جهات، باستثناء مصر المستقرة أمنيا، وصاحبة العلاقة التاريخية الخاصة مع السودان.

كل جهد جاد يسعى للتهدئة ووقف إطلاق النار، عليه أن يساعد السودان أولا في تجنب مصائر الهلاك، فانفجاره لا قدر الله، لا يترك فرصة لأحد في جواره أن يغمض عينيه

وقد تكون القاهرة تأخرت، وانتظرت مضي ثلاثة شهور على إطلاق الرصاصة الأولى، ربما لاعتبارات معقدة، تأخذ في اعتبارها حساسية أطراف سودانية موبوءة، وقد بدت القاهرة الرسمية حريصة على لغة تهدئة وحياد معلن، رغم أنها المتضرر الأكبر من النار التي تأكل السودان، ليس فقط بحكم المصالح والروابط الاستراتيجية والنيلية التي تجمعها مع السودان، بل بآثار الحرب المجنونة الجارية، التي قتلت إلى اليوم آلافا مؤلفة، وشردت الملايين من النازحين واللاجئين، كان طبيعيا أن يتزاحموا على أبواب مصر الجنوبية، وأن يصل عدد اللاجئين السودانيين الجدد في مصر إلى قرابة 300 ألف، يضافون إلى نحو خمسة ملايين سوداني مقيم في مصر قبلها، رغم إجراءات التنظيم وربما التقييد، التي تراعي مضاعفات أزمة اقتصادية يعانيها المصريون، فوق أثقال وتبعات ما يجري في السودان، وتقييده لحركة السياسة المصرية تجاه مشكلة سد الدمار الإثيوبي، ورغم حسن وفادة المصريين للأشقاء من السودان، كما مع ملايين الأشقاء العرب والأفارقة اللاجئين، إلا أنك لا تعدم وجود علامات تبرّم أحيانا، وقد لا تكون هذه هي المشكلة الكبرى اليوم، وإن كان التخوف ساريا من استطراد ما يجري في السودان، وبما دفع السياسة المصرية المتباطئة إلى نوع من التحرك الحذر، زادت ضروراته بعد فشل وساطات دولية وإقليمية وافريقية، كان آخرها وساطة منظمة «إيغاد»، التي تضم السودان نفسه مع جنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي، وكان طريقها ملغوما، حتى قبل أن تعقد اجتماع أديس أبابا الأخير، وتولي الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو رئاستها، وهو المعروف بتعصبه المسيحي الإنجيلي، كما بصداقته وعلاقاته الانتفاعية مع محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد ما يسمى «قوات الدعم السريع»، وبولائه المطلق للسياسة الأمريكية والبريطانية، وقد ذهب روتو إلى أبعد تهجم ممكن على الجيش السوداني وحكومة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وطلب بصراحة تأليف حكومة سودانية في المنفى، وإسقاط أي اعتراف بالحكومة القائمة، وإخراج الأطراف السودانية جميعا من الخرطوم، ووضع العاصمة تحت احتلال ما يسمى «قوات شرق افريقيا»، أي تحويل السودان إلى صومال آخر، وكان مفهوما ومتوقعا، أن تعارض الحكومة والجيش السوداني، وأن تمتنع عن المشاركة بوفدها في اجتماع «أديس أبابا»، وزادت الطينة بلة، مع تصريحات «آبى أحمد» رئيس الوزراء الأثيوبي، الذي طالب بحظر تسيير الطيران العسكري وعمل المدفعية في السودان، وهو ما فضح النوايا الباطنة لمؤامرة ظاهرة على السودان، تريد أن تفسح المجال لحرب أهلية مفتوحة في السودان، تكتب شهادة وفاته كدولة مستقلة، وتمزقه إلى دويلات تحكمها ميليشيات، وتيسر مطامح ومطامع دول جوار في الوصول لغاياتها، ولا يخفى على أحد، أن إثيوبيا مثلا، تريد أن تمحو وجود الجيش السوداني وقيادته، وبالذات بعد استعادة الجيش لأغلب نواحي منطقة «الفشقة» الخصبة زراعيا على الحدود، بعد أن اعتادت إثيوبيا وعصاباتها «الأمهرية» على استغلال أراضيها بقوة الأمر الواقع، وبتغاضي حكومات البشير المخلوع عن العدوان الإثيوبي المتصل لعقود طويلة، وهكذا انكشفت كل الأوراق المخفية، فلم تكن كل الوساطات السابقة خالصة النية.
وفي جدة واجتماعاتها مثلا، بدت المملكة السعودية أحرص على كسب الهدوء في السودان، لكن المشاركة الأمريكية كان لها قصد آخر، ظهر في تعمد التعامل على قدم المساواة بين الجيش السودانى والمتمردين من قوات «الدعم السريع»، وامتنعت السياسة الأمريكية علنا عن إعطاء أي أفضلية «شرعية» للجيش السوداني، رغم كثافة تقارير الميديا الأمريكية عن علاقات جماعة حميدتي مع «فاغنر» الروسية، لكن مقاصد واشنطن الهدامة في السودان تغلبت، فهي لا تريد للحرب في السودان أن تتوقف، ولا تريد لدولة السودان أن تقف على حيلها، ولا أن تتغلب على تمرد الميليشيات، والعينة بينة من سنوات مضت، حتى بعد ذهاب حكومة البشير، فقد دعمت واشنطن أدوار ما يسمى البعثة الأممية في السودان «يونيتامس»، التي كان رئيسها الألماني فولكر بيرتس نسخة أخرى من بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق بعد احتلاله، بل عمل بيرتس سابقا في مكتب بريمر نفسه، وتحول إلى حاكم فعلي للسودان، يؤلف المبادرات، ويتستر بدعم أمريكي بريطاني نرويجي من وراء ما يسمى «قوى مدنية»، جرى إغراقها بالجنسيات الأجنبية والأموال والامتيازات وصولا لما أسمي بالاتفاق الإطاري، الذي أتاح لملياردير مناجم الذهب المسروق حميدتي، أن يلعب لعبته، وأن يبدو في صورة الزعيم الديمقراطي، الذي يرفض دمج قواته «الدعم السريع» في صلب الجيش السوداني، ويتجه بدعم خفي وظاهر من أطراف إقليمية ودولية، إلى تنفيذ انقلابه على الجيش والبرهان صباح 15 أبريل الماضي، وحين أخفقت هجمات الصدمة والرعب في قتل البرهان، وفي السيطرة على مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، أو إعلان حميدتي لنفسه قائدا لعموم القوات المسلحة، حين فشلت الضربة الأولى، وطردت قوات «الدعم السريع» من مطار مروى في الشمال، بدأ حميدتي حرب الاستنزاف المتصلة حتى اليوم في مدن الخرطوم، وتحول الرهان إلى وجهة أخرى، هي السيطرة لأطول فترة ممكنة على مقار الشرطة والوزارات والهيئات والمرافق في الخرطوم، وتحطيم كل مظاهر وجود الدولة، وفتح أبواب السجون والاستيلاء على منازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وإشاعة الفوضى في عموم السودان، بدءا من ولايات دارفور، المنشأ الأصلي لعصابات «الجنجويد»، التي جاء منها حميدتي تاجر الإبل، الذي لم يتجاوز في تعليمه دروس المرحلة الابتدائية، واستدعاه البشير، وجعله جنرالا في حرب دارفور، التي اتصلت لعشرين سنة، وراح فيها مئات الآلاف من الضحايا، أضيفوا إلى ملايين القتلى في حرب الجنوب، التي انتهت بانفصاله، وما يريدونه اليوم هو مواصلة حروب التفكيك ذاتها، ودفع الوضع في دارفور التي تجاوز مساحتها جغرافيا فرنسا، إلى انفصال جديد، يخطط له أن يمتد إلى كردفان والنيل الأزرق وغيرها، حيث تنشط جماعة «الحركة الشعبية» جناح عبد العزيز الحلو، المنضم بكامل قواته إلى الخطط والمصالح الإثيوبية في تدمير السودان، وهكذا تندلع نيران تلتهم أطراف السودان، ولا تستبقي منه غير شماله الملاصق لمصر، وربما أجزاء من الخرطوم وولاية الجزيرة، وبدعوى استحصال كل الأعراق والقبائل على حقوقها و»دولها» فوق جثة السودان، ولا بأس عندهم، من إضافة توابل «ديمقراطية» و»علمانية» على طبخة الموت المستعجل.
ومفتاح الدمار كله، أو سلامة ما تبقى من السودان في المقابل، هو مصير الجيش السوداني، فقد ولد السودان منذ استقلاله بعاهة ملازمة، هي ضعف الدولة المركزية فيه، وضعف تناسب حجمها مع اتساع مساحة البلد وتنوع ثرواته وأعراقه، وموارد الخطر فيه وعند أطرافه، ولا قيامة للسودان بغير جيش قومي محترف جامع وقوى، يكون عمودا فقريا لدولة أقوى، لا تقوم ديمقراطية حقيقية بغير وجودها، فالديمقراطية لا تنشأ ولا تبنى في فراغ دولة، والمجتمع لا يأمن ولا يتطور ويندمج في ظل تعدد الجيوش والميليشيات، ونشرها لخوف ورعب وجودي، يعيد الناس إلى الاحتماء بعصبيات وقبليات وعرقيات أصغر، أو يحملهم على الهروب بالجملة من بلادهم، على نحو ما يجري بعضه اليوم، ويتفاقم مع تتابع شهور الحرب الجارية فصولها، وهدفها الأول هو تحطيم الجيش ودفن معنى الدولة، وكل جهد جاد يسعى للتهدئة ووقف إطلاق النار، عليه أن يساعد السودان أولا في تجنب مصائر الهلاك، فانفجار السودان كله لا قدر الله، لا يترك من فرصة لأحد في جواره أن يغمض عينيه، ولا أن يأمن على شعبه وسلامة وجوده، وهذا هو بعض التحدي الذي تواجهه القاهرة اليوم، فإما أن يكون السودان موحدا وقويا، أو لا تكون مصر بأفضل حال.
كاتب مصري

 

Share this post