فنانون ومبدعون ورموز تاريخية راحوا ضحية حرب السودان

لخرطوم ـ «القدس العربي»: بينما كان ممثلو الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» يوقعون في مدينة جدة الساحلية، الأسبوع الماضي، إعلان مبادئ يقضي بالالتزام بحماية المدنيين، كانت المغنية السودانية الشابة شادن حسين، وآلاف المدنيين يرزحون تحت القصف في مدينة أمدرمان، غربي العاصمة الخرطوم.
في تلك الليلة كتبت شادن على صفحتها على «فيسبوك»: «سنكتب لأول مرة للأجيال المقبلة، تاريخ غير مُجهل، وبكل دقة ومصداقية، نحن شهود عيان على كل ما يحصل في السودان» إلا أنها لم تكن تدري أنها ستقتل بعد ساعات قليلة، وتصبح جزءا من ذلك التاريخ، مخلفة وراءها مشروعا فنيا ضخما، سعت من خلاله للتوثيق للتراث الغنائي السوداني، وترسيخ قيم التنوع والسلام.
لقد فشلت كل محاولات إسعافها، بعدما حطمت شظايا قذيفة طائشة جدران بيتها قبل أن تخترق صدرها، وأعلنت رسمياً وفاتها وسط صدمة كبيرة من عائلتها ومحبيها.
وفي وداع شادن، اعتبر الناقد الفني السوداني، هيثم الطيب، في حديثه لـ«القدس العربي»: «رحيل أي مثقف/ة ،مبدع/ة خسارة كبيرة لوطن يحلم بالديمقراطية لأن رمزية تكوينها كبناء قاعدي ومجتمعي يعتمد على حركة المثقفين والمبدعين».
عمل الطيب في توثيق الحركة الموسيقية المتداخلة في أفريقيا، منحه فرصة الاقتراب من الفنانة الراحلة باعتبارها جزءاً من المشروع نفسه، وعن ذلك قال: اكتشفت أن لها مشروعا وطنيا عريضا وبأهداف كبيرة ووطنية تعرف قيمة الفنون الأدائية في المجتمع وحركة الحياة عموما».
وأضاف: «كانت تعمل لترسيخ قيمة التنوع كقيمة تعايش وحياة وقيمة تنمية كاملة عبر استخدام الثقافة في ذلك، ضمن مشروعها الثقافي. ولها مساهمات كبيرة وكثيرة ومتعددة في مجالات صناعة السلام المجتمعي في كل السودان وتحقيق حد رفض كامل لكل أشكال الصراعات والحرب».

خسارة كبيرة

ورأى أن «فقدانها كمواطنة وقائدة ثقافية ومجتمعية، يعني فقدان قوة كبيرة للوطن كانت تعمل في اتجاه تحقيق فهم نسق ثقافي وتنموي، أي المشاركة بكل أدوات الفعل الايجابي في أي مشروع وطني للسلام والتنمية».
وشادن هي ابنة لواء متقاعد في الجيش السوداني، اشتهرت بترديد أغاني التراث السوداني، فيما عملت على تغيير الدور التاريخي لـ«الحكامة» والتي تعمل على إثارة حماس المقاتلين خلال الحرب، ضمن أدوار اجتماعية أخرى، تبرز أهميتها في تشكيل مواقف وثقافة القبيلة.
كانت تريد حسب قولها أن «يتحول ذلك الدور عبر مغنين مثقفين، لرسالة سلام تدعو لإيقاف الحرب وتعزيز ثقافة السلام، عبر ذات الحكامة، لذلك لقبت نفسها بالحكامة شادن»
وقد نشرت، قبل أيام من وفاتها، أغنية باللهجة المحلية، حثت خلالها على إيقاف الحرب، تقول كلماتها: « لا تقتل أخاك يا أخي وتسوي الكلام الني. الفاس وقع في الراس سمعة عقابنا خلاص. رأس فاضي من الدين شايلين سلاح حايمين. تقتل شمال ويمين للعشرة ما صاينين».
وقد سبق رحيل شادن، في الخامس من شهر مايو/ أيار الجاري، مقتل رائدة المسرح السوداني، والممثلة السودانية البارزة آسيا عبد المجيد (80 عاما) التي سقطت برصاصة خلال معارك الجيش والدعم السريع في مدينة بحري شمال الخرطوم.
استهدفتها الرصاصة داخل مؤسستها التربوية التي كانت تقضي فيها جل وقتها، بعد اعتزالها. ولم يكن بالإمكان تشيعها كما يليق بأول ممثلة مسرح في السودان، أو حتى نقلها لتدفن في المقابر، في ظل اشتداد المعارك التي لم تهدأ لأيام. ولذا دفنت بعد ساعات من وفاتها داخل مؤسستها التربوية.

«بامسيكا»

والممثلة آسيا عبد المجيد هي أرملة الشاعر السوداني البارز محمد الفيتوري. وقد سبق لها أن وقفت على خشبة المسرح في عام 1965، في مسرحيتها «بامسيكا» بصحبة عدد من النجوم السودانيين، رفضا للحكم العسكري، في الذكرى الأولى لثورة أكتوبر/ تشرين الأول، والتي أطاحت بنظام الرئيس إبراهيم عبود. وبرزت تلك المسرحية كواحدة من أهم الأعمال الأيقونية التي دعت للحكم المدني الديمقراطي منذ عقود.
وقال الشاعر السوداني عبد المنعم الكتيابي عنها: «قتلت قذيفة طائشة طيش هذه الحرب العبثية، امرأة من طراز فريد، صلبة المواقف، أولى رائدات المسرح والتمثيل الإذاعي في السودان».
أما الكابتن فوزي المرضي، فقد مثلت وفاته صدمة كبيرة للسودانيين، والذي يعد أحد عمالقة كرة القدم السودانية والمدرب البارز، الذي كان يلقبه محبوه بـ«فوزي الأسد» لقوته وجسارته كلاعب في الفريق القومي ونادي الهلال – أحد الأندية الجماهيرية البارزة في السودان – والذي أصبح لاحقا مدربا له.
يوم اندلعت المعارك بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» والتي كانت مفاجئة لمعظم السودانيين على الرغم من التحشيد العسكري، الذي ظلت تشهده العاصمة الخرطوم، ذهبت ابنة فوزي المرضي، الطبيبة آلاء، إلى عملها كالمعتاد، صبيحة اليوم الأول للمعارك، ليسرع شقيقها ويعيدها للمنزل. وبعد دقائق معدودة من تنفس عائلتها الصعداء لعودتها سالمة، وبينما كانت تروي لعائلتها أهوال ما رأت في الطريق، اخترقت رصاصة طائشة نافذة المنزل لتردي آلاء، في الحال، وتصيب والدتها على نحو حرج، حيث لا تزال في غرفة العناية المركزة، في وضع دقيق للغاية. لم يحتمل قلب «فوزي الأسد» أو «أسد الهلال» كما يحب مشجعو النادي العريق مناداته، ما حل بزوجته وابنته، التي ظل يروي موتها الخاطف، حتى رحيله، مساء الخامس من مايو/ أيار الجاري، وسط صدمة كبيرة في الشارع السوداني.
ولد المرضي في مدينة أمدرمان غربي الخرطوم، في عام 1953، ثم التحق بفريق الهلال في عام 1971 حيث سطع نجمه كأحد أبرز المدافعين السودانيين. ولاحقا، اعتزل لعب كرة القدم في عام 1980 وبعدها بعامين عاد مرة أخرى كمدرب لفريقه وأندية أخرى، فضلا عن المنتخب القومي السوداني.
كذلك أعلنت، في صبيحة أمس الأحد، عائلة رئيس لجنة الإعلام في اتحاد الكرة السودانية أمير حسب الله، مقتله داخل منزله في منطقة جبرة جنوب الخرطوم، والذي ظل يشهد معارك عنيفة في محيط منزل زعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» والأحياء المجاورة له والتي راح خلالها العديد من المدنيين.
وقالت إنه «قتل غدرا داخل منزله» دون إيضاح. بينما ظلت المنطقة تشهد أعمال نهب مسلح وانفلاتا واسعا فيما تتصاعد معارك الجيش والدعم السريع. على الرغم من أن وفاة الشاعر عبد الواحد عبد الله (84 عاما) كانت في مدينة القضارف، شرقي السودان، وفي ظروف طبيعية، إلا أنها أصابت السودانيين بصدمة.
ففي الخامس من الشهر الجاري وبالتزامن مع وفاة الكابتن فوزي المرضي، نعت الأوساط السياسية والثقافية في السودان الشاعر السوداني، والذي كتب قصيدة الاستقلال، التي ظل يتغنى بها السودانيون كل عام في ذكرى تحرير البلاد والتي يقول مطلعها: «اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا.. يا اخوتي غنوا لنا».
لم يحظ شاعر الاستقلال بالتشييع الذي يستحقه، بينما تخوض البلاد حربا، لا يعلم السودانيون متى تضع أوزارها، وهل سيعود الشعب بعد مخاضه العسير ليغني من أجل راية الوطن.

Share this post