إيكونوميست: في السودان وجنوبه أخطأ الغرب في صناعة السلام وكافأ العسكر على حساب المدنيين

لندن- “القدس العربي”: نشرت مجلة “إيكونوميست” تقريرا تساءلت فيه عن أخطاء الغرب في صناعة السلام في السودان. وأضافت أن الحرب في ثالث بلد مساحة في القارة الإفريقية وبـ45 مليون نسمة تسببت بارتياح وخوف وديجافو في جوبا، عاصمة جارتها الجنوبية.

فمن ناحية كان هناك شعور بالارتياح لأن جنوب السودان، الذي انفصل عن السودان في عام 2011، يبدو بمعزل إلى حد ما عن الفوضى. أما الخوف فلأن عنف السودان قد يمتد رغم ذلك عبر الحدود بين البلدين، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات التي لا تزال مستعرة في أحدث دولة في العالم. وبالنسبة لشعور اننا كنا هنا، ديجافو فلأن ما يحدث في السودان اليوم يبدو وكأنه تكرار للأحداث في جنوب السودان في السنوات التي أعقبت الاستقلال، حيث انتهت كما تقول المجلة محاولات الغرب الحسنة النية لصنع السلام وبناء الدولة بالحرب والفوضى.

وترى المجلة أن جذور الأسباب المعقدة للحروب في السودانين إلى عقود، إن لم يكن قرونا. الرجال الذين يختارون ذبح مواطنيهم هم المسؤولون بشكل مباشر. لكن منذ أن شن جيشان متنافسان حربا على الخرطوم، عاصمة السودان، في 15 نيسان/ أبريل، اندلعت موجة من الانتقادات للدبلوماسية التي استخدمها الغرب والحكومات الإقليمية في محاولتها الفاشلة لتجنب الصراع.

وكان جزء كبير منه عبارة عن نقد ذاتي، حيث كان الدبلوماسيون والمسؤولون السابقون يتألمون من الأخطاء وما إذا كان بإمكانهم فعل الأشياء بشكل مختلف. ولكن هناك شعور عام بأن نموذج “حل النزاع” المستخدم على نطاق واسع في مثل هذه الحالات معيب. إذا لم تتم معالجة هذه الأخطاء، فإن الجهود الأخيرة لإسكات البنادق في السودان، والتي بدأت في السعودية في 6 أيار/ مايو، محكوم عليها بالفشل.

وتعتقد المجلة أن في قلب عملية صنع السلام في السودان، كانت محاولة للحصول على رضا اثنين من القادة العسكريين الأقوياء لتقاسم السلطة بعد انقلابهم في نيسان/ أبريل 2019. وذلك بعد احتجاجات الشوارع المستمرة التي أدت إلى الإطاحة بعمر البشير، الذي حكم السودان كديكتاتور منذ عام 1989. مع أن ما حدث كان “ثورة نصف مكتملة”. فقد رأت القوات المسلحة السودانية البشير على وشك السقوط، فطردته واستولت على السلطة.

قاد الانقلاب اللواء عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، ومحمد حمدان دقلو، حميدتي، الذي قاد ميليشيا في دارفور تحولت إلى قوة شبه عسكرية تعرف باسم قوات الدعم السريع لكسر إرادة المتظاهرين، قتلت قوات الأمن أكثر من 100 شخص في حزيران/ يونيو 2019.

وبعد ذلك بفترة وجيزة، توصل الدبلوماسيون إلى اتفاق لتقاسم السلطة على أمل منع المزيد من سفك الدماء. وبدا الأمر أنه من أجل انتقال السلطة “بقيادة مدنية” إلى الديمقراطية، وفي واقع الحال، كانت كل السلطة لا تزال في أيدي الجيش وقوات الدعم السريع.

وتعلق أن استراتيجية التركيز على الرجال المسلحين بدت جيدة وإن كانت مناسبة أيضا. ففي ظل غياب قيادة واضحة بين “لجان المقاومة” التي ازدهرت في الخرطوم، لم يكن من السهل معرفة المدنيين الذين ستضمهم المحادثات. وفاقم الوضع ثقافة تجنب المخاطر التي تميل إلى إبقاء الدبلوماسيين في غرف الاجتماعات وحفلات الكوكتيل بدلا من الخروج إلى الشوارع.

قال دبلوماسي أمريكي في عام 2019، عندما سُئل عما إذا كان قد اختلط بالمحتجين: “بالطبع لا. لن يسمح لنا”. ربما كان العيب الأكبر هو أن الصفقة استندت إلى فكرة أنه يمكن الوثوق بالجنرال برهان وحميدتي عندما أبلغا المفاوضين أنهم سيسلمون السلطة إلى المدنيين.

ولا يمكن الوثوق بهما بعدما أعاقا محاولات رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك لإصلاح الاقتصاد الكليبتوقراطي السوداني، وهو خبير اقتصادي تم تعيينه في منصبه كتكنوقراطي.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بعد خمس ساعات من إخبار جيفري فيلتمان، الذي كان حينها مبعوث أمريكا إلى القرن الأفريقي، بموافقتهم على صفقة أخرى أعيد كتابتها من شأنها أن تؤخر تسليم السلطة، أطاح الجنرال برهان وحميدتي بحمدوك.

وبنفس المثابة قدما في نيسان/ أبريل من هذا العام وعودا مماثلة للدبلوماسيين، لكن بعد أيام قليلة خاضا حربا مع بعضهما البعض بدلا من ذلك.

وأشار فيلتمان في الفترة الأخيرة إلى أن “المجتمع الدولي تبنى ما قلناه لأنفسنا أنه النهج الواقعي الوحيد: التعامل مع أمراء الحرب أنفسهم. اعتبرنا أنفسنا براغماتيين. الإدراك المتأخر يقول بأن ذلك كان تمنيا كوصف أكثر دقة”.

وخلف هذه السذاجة افتراضات خاطئة حول حوافز الجنرالين برهان وحميدتي.

وتقول المجلة: “يمكن فهم السودان، مثل العديد من البلدان الهشة، على أنه سوق سياسي حيث العملة الرئيسية هي العنف”.

يمكن فهم السودان على أنه سوق سياسي حيث العملة الرئيسية هي العنف

وعلق دبلوماسي غربي سابق أن القوات السودانية المسلحة وقوات التدخل السريع كانتا “طرفي احتيال تحاولان محاصرة السوق”.

كان الانقلاب في عام 2021 مدفوعا بمخاوف الجيش من تسارع وتيرة جهود قمع المصالح الاقتصادية للجيش، وفي الوقت نفسه، من خلال المخاوف من أن حميدتي سيستفيد من أي بيع للأصول التي تحتفظ بها شبكات الجيش الواسعة، بحسب الدبلوماسي.

في المفاوضات، يلاحظ كاميرون هدسون، الدبلوماسي الأمريكي السابق، أنه من السهل أن ينخدع الشخص بأن “ممثلين آخرين يتماشون بطريقة تتماشى بها معهم”. ولوح المبعوثون بالحوافز مثل إنفاق المساعدات على التعليم مقابل إصلاحات سياسية أو إصلاحات لمكافحة الفساد، والتي اعتبرها القائدان العسكريان تهديدا مباشرا.

ويجادل هدسون قائلا: “إنك تعرض عليهم طريقا إلى البطالة”.

وتقول المجلة إن القتال الأخير اندلع من خلال محادثات تهدف إلى دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية.

إلا أن الدبلوماسيين بدفعهم للاثنين لتقاسم السلطة، ابتكروا “منطق المحصل الصفري” الذي كان بمثابة “صيغة للانفجار”، كما يقول أليكس دي وال من كلية لندن للاقتصاد. وأضافت كليوناد راليخ، من مشروع بيانات الأحداث والمواقع للصراع “أكسليد” إن “العنف ليس انهيارا للنظام ولكنه جزء من تسلسل طبيعي”.

وكشف بحثها كيف كانت هناك زيادة مطردة في عدد الميليشيات والعنف الذي يرتكب عبر إفريقيا. يرجع هذا الاتجاه إلى الحوافز الكامنة في الديمقراطيات الهشة أو “الانتقالية”، حيث يستخدم كبار الشخصيات العنف للمساومة على السلطة التي تصبح بعد ذلك رسمية في اتفاقيات السلام.

وقد حدثت أخطاء مماثلة في جنوب السودان وأحيانا من قبل نفس الأشخاص.

وكان في قلب الحكومة الجديدة في جنوب السودان- ولا يزال- اتفاق تقاسم السلطة بين الرئيس سلفا كير ورياك مشار، النائب الأول للرئيس. في عام 2013، أعاد الاثنان بلدهما الناشئ إلى الحرب الأهلية، وكلفهما حوالي 400 ألف شخص. على الرغم من أنه انتهى اسميا في عام 2018، إلا أن العنف المحلي لا يزال مستمرا.

في نيسان/ أبريل، اتهم تقرير للأمم المتحدة العديد من السياسيين البارزين بالمسؤولية عن القتل والاغتصاب والاستعباد الجنسي. يقول رزق زكريا حسن، حليف مجلس وزراء سيلفا كير: “يسود السلام البلد أو 90% منه على الأقل”.

ولم يجر الرجال الأقوياء هناك انتخابات عامة منذ الاستقلال في 2011 رغم الوعود المتكررة بذلك. لا يحمل السلك الدبلوماسي المحبط في جوبا أملا ضئيلا في إجراء التصويت المقرر بحلول نهاية العام المقبل.

ويقول بيتر أجاك، الأكاديمي المختص في جنوب السودان، إن جنوب السودان لم يكن ليكون السويد، إن العواقب غير المقصودة لتعزيز “الاستقرار” أضرت بالبلاد. “عندما تبقى النخب في السلطة فقط من خلال العنف والفساد، لا يمكن أن يكون هناك استقرار حقيقي”.

فمشار، أحد نواب الرئيس الخمسة، هو نتاج نظام يكافئ أمراء الحرب بالسلطة. يقول دبلوماسي غربي: “نحن نسارع إلى إلقاء اللوم على السياسيين. لكن يجب أن نقضي المزيد من الوقت في النظر في المرآة”.

بعيدا عن المجمعات المليئة بعمال الإغاثة ذوي الأجور الجيدة في جوبا، غالبا ما تكون الحياة خطرة وبائسة. ففي أوتالو، شرق جنوب السودان، يتم اختطاف الأطفال بشكل متقطع من قبل قبيلة منافسة. لا يوجد مدرسون بأجر في المدرسة المحلية. كل ما يمكن أن تفعله “العيادة” هو توزيع أكياس التغذية المتبرع بها للرضع الذين يعانون من الجوع. وقضت الفيضانات المفاجئة العام الماضي على معظم المحاصيل والماشية.

يقول أوجوك ليرو، أحد قادة المجتمع، إنه “يشعر بخيبة أمل كبيرة في الاستقلال”. وأضاف أن السبب الجذري هو “العمل السياسي… أولا تتمرد، ثم تكافأ من قبل الحكومة”.

مثل السودان، يبدو جنوب السودان رهين لرجلين كبيرين محتملين. في آذار/ مارس، في أحدث تطور في دراماهما الطويلة، أقال سلفا كير وزيرة دفاعه، التي تصادف أن تكون زوجة مشار. يوضح واني، وهو طالب في جوبا، “لدينا مشكلة مع قادتنا: كلاهما يريد وظيفة لا يمكن تقسيمها”. هو نفسه يتخيل مهنة سياسية. يقول: “تأتي، وتأكل ما يمكنك أن تأكله، ثم تذهب. لهذا السبب يريد الجميع أن يصبح رئيسا – حتى أنا”.

هناك الآن إدراك متأخر بأن الأطراف الخارجية في كلا البلدين لم تفعل ما يكفي لتعزيز قوة المؤسسات المدنية. يقول أمجد فريد، المسؤول السابق في الحكومة الانتقالية السودانية: “لقد رأينا مرات عديدة في إفريقيا أنه لا يمكنك المساعدة في بناء ديمقراطيات من خلال استبعاد المجتمع المدني والتساهل مع الجنرالات”. كما لم تساعد أمريكا في ظل إدارة ترامب الأمور من خلال إقناع حمدوك بالتوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل على حساب رأسماله السياسي ووقته الثمين. خطأ فادح آخر هو عدم إعطاء حمدوك الدعم المالي الكافي، من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مثلا وفي وقت مبكر بما فيه الكفاية.

يقول الدبلوماسي السابق: “إذا لم تقدم الطعام للناس في الوقت المناسب، فإنهم يموتون. هنا إذا لم تحصل على الأموال للحكومات المدنية في الوقت المناسب، فإن السياسة تموت”.

وتقول المجلة إن بعض المحللين يذهب إلى أبعد من ذلك، بحجة أن عملية استرضاء الجماعات المسلحة ذاتها يمكن أن تمنع التدفق الطبيعي للسياسة.

في كتاب “عندما يقتل السلام السياسة”، وهو كتاب لشاراث سرينيفاسان، استنادا إلى بحث أكاديمي في كامبريدج حول السودان، يجادل بأن صنع السلام على النحو الذي يروج له الدبلوماسيون الغربيون يقضي على نوع الحركات السياسية التصاعدية التي أطاحت بالبشير في عام 2019. في المنتديات التي يتم فيها تقسيم الغنائم بين أولئك الذين يحملون السلاح وجلب التكنوقراط مثل حمدوك، يهمش السياسيين الذين لديهم قواعد شعبية حقيقية والذين يجب أن يكونوا على الطاولة.

يضيف أجاك، الاقتصادي المختص في جنوب السودان، أن أمريكا يجب أن تكون حذرة من تآكل ما يجب أن يكون أكبر ميزة لها في عصر المنافسة الجيوسياسية. يجب أن تكون أمريكا نموذجا للديمقراطيات الطموحة. ولكن إذا كان ينظر إليها على أنها تدعم أمراء الحرب في الدول الهشة، “كيف ستنافس الصين؟”.

و”الاختلاف الوحيد بين الاثنين هو أنه عندما يتعامل الأفارقة مع الأمريكيين فإنهم يعودون بوعود فارغة بدلا من أكياس من المال”.

Share this post