على النخبة السياسية إدراك أن هذا الإقليم هو “كعب أخيل” الثورة السودانية ونقطة ضعفها المميتة
حين يتجاهل مركز السلطة في الخرطوم جزءاً بالغ الأهمية حيوياً واستراتيجياً بالنسبة إلى السودان عبر وضع شرق السودان في خانة النسيان طوال عهود الحكومات المركزية منذ ما بعد الاستقلال، فهذا كاف بذاته للنهوض علامة واضحة على أزمة السلطة المركزية التي فرطت في حقوق مواطنيها حين صارت تلك الحقوق شبه محتكرة من قبل المركز، فيما بات السودان من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه يعاني إهمالاً متزايداً أدى مع الزمن إلى انفصال الجنوب، وتمرد حركات دارفور في الغرب، الأمر الذي يدل على أن ثمة تحيزات مورست لصالح المركز من دون الأطراف، وتلك هي المعضلة الحقيقية التي تهدد المصير الوطني المشترك للسودانيين.
جهل الإعلام بالشرق
وإذا صح أن هناك إهمالاً مورس بحق “البجا” (سكان شرق السودان) فإن ما تفرع عن ذلك الإهمال من جهل بالشرق أصبح هو مصدر تعاطي المركز مع قضايا الإقليم، وهكذا رأينا صحف الخرطوم ووسطها الإعلامي والسياسي في تغطياته الإعلامية يهول من تهديدات بعض الكيانات القبائلية في الشرق، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا، بالانفصال، في حين أن الحقيقة هي أن الحراك الفوضوي في شرق السودان خلال عام 2021، الذي تم بموجبه إغلاق مرافق قومية عامة كالموانئ، وقطع الطريق الواصل بين شرق السودان والخرطوم على يد قادة المجلس، كان مسرحية فوضوية تدار بإيعاز من اللجنة الأمنية في المركز، وتحت نشاط عمليات شد الأطراف كاستراتيجية من جانب المكون العسكري، آنذاك، لإجهاض الثورة.
وعليه يمكن القول، إن فصل شرق السودان لا يمكن أن يتم إلا إذا كان المكون العسكري بقواته النظامية يريد ذلك، فهو المكون الوحيد الضامن لوحدة السودان بما له من صفة قومية وقدرة وقوة سلاح، فهل يعقل أن يغيب ذلك عن الوسط الثقافي والإعلامي في المركز، لولا أن الجهل بشرق السودان هو العتبة المريحة التي يتكئ عليها ذلك المركز؟
ولعل في اعتراض فولكر بيرتس رئيس بعثة “يونتامس” (البعثة الأممية المتكاملة في السودان) الشديد على إغفال مسألة شرق السودان في النسخة الأولى من مسودة الإعلان السياسي (التي خصصت سطراً ونصف السطر لمشكلة شرق السودان) أثناء نقاشه بنود الإعلان مع وفد من قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، ما يدل بوضوح على غياب أي رابط في الرؤية السياسية لقادة “الحرية والتغيير” بين الأهمية الجيوسياسية للشرق واستحقاقه العادل للتنمية والتمييز الإيجابي؟
ولحسن الحظ استدركت قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي ذلك الخطأ بأن أدرجت في بنود الاتفاق السياسي الإطاري قضية شرق السودان كأحد الملفات الأساسية الخمسة التي تم طرحها للتفاوض مع المكون العسكري وصولاً إلى الاتفاق السياسي النهائي قريباً.
فشل النخبتين
هكذا بين نزعة إهمال وتهميش لشرق السودان في العقل السياسي لقوى الأحزاب المركزية بالخرطوم وتعبيرات سياسوية عدمية من كيانات في شرق السودان كالمجلس الأعلى لنظارات البجا، يجري التعامل مع انفصال شرق السودان بوصفه فزاعة من خلال تغطيات مركز إعلامي وسياسي في الخرطوم غير ملم بأحوال الشرق وطبيعة ما يمكن أن يحدث له إذا أصبح ذلك الشرق الآن، ولأي سبب من الأسباب، في حال انفصال عن السودان.
وما لا يدركه لا هؤلاء ولا هؤلاء هو أن أي وضع انفصالي لشرق السودان، وهو على تلك الحال من الإفقار والتهميش، ستكون نتيجته مصيراً كارثياً من الفوضى ومستنقعاً للاقتتال الأهلي والنزاعات القبائلية التي ستفضي لا محالة إلى وقوع المنطقة تحت رحمة أجندات إقليمية ودولية جاهزة في ساعة الصفر للانقضاض على الموقع الجيوستراتيجي لشرق السودان، وتوظيف الاستعداد الهش لـ”البجا” في صراعات قوى إقليمية ستجعل من شرق السودان جحيماً لا يمكننا تصور تداعياته الكارثية على السودان كافة.
عادات مناوئة للتغيير
وإذا كان المركز في الخرطوم تمادى في تهميش وإهمال شرق السودان لأكثر من 60 عاماً، فإن ذلك لا يعفي نخب “البجا” من واجب النقد الذاتي والموضوعي لبعض ما يتصل بكثير من عاداتهم وموروثاتهم المعيقة للانفتاح على الحياة والتغيير، فهناك عوائق ذاتية كثيرة تعكس عنتاً واضحاً من “البجا” في التأقلم مع الحياة الحديثة عبر تصوراتهم القبائلية ونظم إدراكهم القديمة المعبرة عن العزلة والتمسك بعادات بالية. وهي عادات ما زالت تتسبب بأضرارها البالغة في تعطيل حياة “البجا” وتأبيد عجزهم عن مواكبة تطور الأوضاع المعيشية الحديثة، فالاستعصاء على التعليم، والرغبة في العزلة بالبوادي والبعد عن المناطق الحضرية، والآفات التي تواجه كثيرين منهم نتيجة الجفاف والأمراض والفقر والجهل، ونظرتهم المقدسة للأرض بطريقة غير منتجة مع غياب آليات التنمية، كل تلك الأمور لا بد من انتقادها وإلا سنكون بمثابة من يقفز على الحقيقة.
مع ذلك فإن تلك العادات البجاوية وما يتصل بها من نظم إدراك وأسلوب حياة ومشكلات معيقة للتطور، ليست مما يمكن حله حلاً جذرياً عبر الجهود الفردية والمنظمات الطوعية مهما بلغت جهودها، بل هو واقع لا تستطيع تغييره إلا سياسات دولة عليا وحكومة قوية تهتم بإدماج مواطنيها في مقدرات الدولة وأدواتها وقانونها، وهو ما عجزت عنه الحكومات السودانية المتعاقبة للأسف، حتى إنه يمكننا القول إننا نخشى أن يكون “البجا” مأزق الدولة السودانية في المستقبل.
وللأسف نجد أن بعض الكيانات السياسية القبائلية في شرق السودان تستغل تلك العادات والعقائد القديمة لـ”البجا” وتوظفها في توجهات انعزالية ضارة عبر الضرب على وتر البطولات والأمجاد القديمة عاطفياً من دون أي تطوير إيجابي لقدراتهم نحو التطور والتنمية.
الفرصة الأخيرة
صحيح أنه قد حدث إهمال من قبل المركز للأطراف السودانية، لكن بنظرة سريعة على ما تبدل من أحوال تلك الأطراف خلال 60 عاماً، سنجد أن الجنوب انتزع دولته المستقلة بعد يأسه من المركز، والغرب أصبح اليوم أفضل حالاً بكثير مما كان عليه أمره غداة الاستقلال، في حين نجد أن أي مقارنة بين وضع “البجا” اليوم في الشرق، ووضع الجنوب والغرب، ستسفر عن حقيقة مرة هي أن “البجا” لا يزالون في مكانهم من التأخر.
فما الذي تدل عليه هذه الحقائق سوى أنها تشير إلى فساد النخبتين: نخبة المركز في حرمان “البجا” من التنمية، ونخب “البجا”، إلا من رحم الله، في خيانة واجب تطويرهم وتنميتهم ومقاومة العادات القبائلية الضارة ومحاربة العصبية بدلاً من الخوض فيها. وكانت النتيجة ظلماً مزدوجاً وقع من النخبتين على عامة “البجا” وتركهم لمصيرهم المجهول.
على النخبة السياسية السودانية في المركز، وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير، أن تدرك أن شرق السودان اليوم هو عنوان امتحانها العسير، إذ لا يكفي اليوم الحديث عن تهميش شرق السودان (حتى وإن صار موضوعاً رئيساً من موضوعات ملف الاتفاق السياسي الإطاري)، فقد أثبت التاريخ طوال 60 عاماً، أن نخب المركز فشلت في اختبار استحقاق تنمية الشرق حتى بعد ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) المجيدة.
كما أن على النخبة السياسية السودانية أن تدرك أن شرق السودان هو بحق “كعب أخيل” الثورة السودانية ونقطة ضعفها المميتة، والعنوان الدائم لاحتمالي الفشل والنجاح لهذه الثورة. وما يلوح من بصيص أمل في مخرجات الاتفاق السياسي الإطاري اليوم هو الموعد الأخير للنخبة السياسية السودانية لاستدراك القدرة على الإمساك بالمصير السياسي للسودانيين جميعاً، وتكوين حكومة رشيدة تتعاطى مع معالجات قضايا شرق السودان وأزمته الخطيرة عبر سياسات عليا لدولة رشيدة وخطط تنموية نافذة لا بد من التسريع بها والحرص عليها.
في الوقت ذاته، على نخب “البجا” وكياناتها السياسية إدراك أن رفع شعار مظلومية “البجا” من دون القيام بواجب النقد الذاتي لن يحقق نتيجة، كما أن على هذه النخب أن تدرك تماماً أن رفع شعار الانفصال (الذي لم تتجرأ على إعلانه في ظل الحكومات الديكتاتورية كحكومة نظام البشير) في وجه ثورة واعدة، وأمام فرصة أخيرة تلوح في الأفق للاستقرار السياسي من خلال الاتفاق الإطاري، سيكون مغامرة عدمية ومجازفة بحقوق “البجا” في شرق السودان، وسير نحو مصير مظلم.