مقبرة رخ مي رع تُعد مسرحاً لكل مظاهر الحضارة والازدهار في عاصمة الفراعنة

الأقصر (مصر) – في جبل القرنة التاريخي بالبر الغربي لمدينة الأقصر التاريخية في صعيد مصر، والغنية بالعشرات من المعابد والمئات من المقابر التي شيّدها ونحتها حكام مصر القديمة، ووسط مجموعة مقابر الأشراف بجبانة طيبة القديمة -عاصمة الفراعنة لقرون عدة- تقع مقبرة الوزير الفرعوني رخ مي رع، الذي عاش في عهد الملك تحتمس الثالث، والملك امنحتب الثاني، والمقبرة واحدة من أضخم المقابر في المنطقة.

وقد نالت المقبرة شهرتها وذاع صيتها في أوساط الآثاريين وعلماء المصريات، ودارسي الفنون، بفضل ما على حوائطها من جداريات ونقوش ورسوم تسجل بالتفصيل مهام الوزراء في عهد ملوك الأسرة الثامنة عشرة بمصر القديمة، إضافة إلى اشتمالها على موضوعات الفن المصري القديم بمراحله المختلفة، واحتفاظها بجمال مناظرها وألوانها الزاهية حتى اليوم.

وقال الآثاري المصري سلطان عيد، المدير العام الأسبق لمنطقة آثار الأقصر ومصر العليا، إن “مقبرة رخ مي رع تُعد مسرحاً لكل مظاهر الحضارة والازدهار التي عرفتها مصر في عهد واحد من أعظم ملوك مصر القديمة، وهو الملك تحتمس الثالث، حيث تسجل جدران المقبرة وما عليها من جداريات ونقوش ورسوم الكثير من المناظر التي ترصد تفاصيل الحياة اليومية في عصرها، بجانب مناظر فريدة كانت محل بحث من قبل المهتمين بالفنون التشكيلية، ودارسي وعشاق الحضارة المصرية القديمة”.

جدران المقبرة وما عليها من جداريات ونقوش ورسوم ترصد تفاصيل الحياة اليومية في عصرها وتؤكد مهارة الفنانين القدامى

ويرشدنا المرشد السياحي المصري، أحمد عبدالحميد، إلى أنه على الجانب الغربي من المقبرة يجذب الأنظار نص كبير يسجل حياة رخ مي رع الوظيفية، ومهام الوزير في مصر القديمة، وما يجب أن يقوم به من أعمال وواجبات تجاه أفراد الشعب.

وأشار عبدالحميد في تصريحات له إلى أن المقبرة تتفرّد أيضا بالمنظر الشهير لحملة الجزية، والذي يمثل تقديم الهدايا والجزية إلى الوزير رخ مي رع من ممثلي البلاد الأجنبية، حيث نشاهد مقدمي الهدايا وقد وقفوا في خمسة صفوف: الصف الأول نجد فيه مجموعة من الأشخاص وهم يقدمون منتجات بلادهم من أنواع شجر البخور، الذي اكتشف في معبد الدير البحري الذي شيدته الملكة حتشبسوت غربي مدينة الأقصر، وذهب وعاج وريش نعام وجلد فهد وقلائد وحيوانات حيّة مختلفة منها القرد والوعل والفهد، وبحسب كتب المصريات والمصادر التاريخية، فإنه يبدو من شكل هؤلاء أنهم من بلاد بونت -الصومال حاليا- فيما تمثل مناظر الصف الثاني مجموعة من أهالي بعض الجزر مثل “كريت” و”جزر بحر إيجه” وذلك فقا للمصادر الأثرية، وهم يحملون منتجات تلك البلاد من الأواني والأدوات مختلفة الأحجام والأشكال والأغراض والأنواع، وربما عرض الآثاريون هوية هؤلاء من تلك الأواني التي اشتهرت بها بلادهم قديما.

وتمثل مناظر الصف الثالث مجموعة من مقدمي الهدايا الذين يحملون ريش وبيض النعام وأبنوس وسن فيل ومجموعة من الأبقار ومجموعة من كلاب الصيد وحيوانات أخرى متعددة، وفي الصف الرابع مجموعة من سكان منطقة “رتنو” في سوريا، وهم يحضرون معهم عربةً وخيلاً ودباً وفيلاً، ومجموعة من الأواني. أما الصف الخامس فهو لمجموعة لا تحمل هدايا، وجاءت لتقدم نفسها للخدمة بديلا عن الجزية.

ويصف لنا الأكاديميان محمد علي ومنى سعد المشكلط في كتابهما “أقاليم مصر الفرعونية: الأقصر” بعض المناظر المهمة داخل مقبرة الوزير رخ مي رع، والتي تسجل تفاصيل الحياة اليومية في مصر القديمة، مثل منظر عصر العنب (معصرة للنبيذ)، حيث يبدأ بقطف العنب من الشجر ثم وضع العنب في السلال ثم حمله ووضعه في الحوض -حوض عصر العنب- والعمال يهرسون العنب بأقدامهم في أوانٍ كبيرة، ثم ينزل العصير من الأحواض ويوضع في الأواني التي تُغلق وتختم.

وكذلك مناظر للطيور والأسماك، ثم مناظر للصيد في الصحراء، وبعض الطيور فوق بحيرة ينبت فيها نبات البردي، وحيوانات برية وكلاب للصيد.

وأيضا صناعة الأواني والتماثيل الملكية في مجموعة مصانع معبد آمون التي يشرف عليها صاحب المقبرة الوزير رخ مي رع، حيث نشاهد العديد من التماثيل الملكية منها الواقف والجالس ومنها من نحت على هيئة أبي الهول.

وقال الأكاديمي عبدالرحيم حاكم، من أسرة كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصر، “إن الجداريات الفنية داخل مقبرة الوزير رخ مي رع تُعد النموذج المثالي لدراسة فن مقابر أشراف الدولة الحديثة”.

وفي دراسة له حملت عنوان “السمات الفنية لجداريات مقبرة رخ مي رع.. دراسة تحليلية” أشار حاكم إلى أن جدران مقبرة الوزير رخ مي رع تحمل أعمالاً فنية متنوعة تنوعاً هائلاً فيما بين التصوير الجداري الذي يجمع بين النحت والتلوين وبين الرسوم الجدارية الخالصة، وأن الفنان المصري القديم صوّر تلك الجداريات برشاقة وثقة تنم عن مهارة عالية ووعي تام بالغرض التعبيري أو الرمزي.

وتوقفت دراسة عبدالرحيم حاكم، حول السمات الفنية لجداريات مقبرة رخ مي رع، عند موضوع الخط وأنواعه داخل المقبرة، ولفت إلى أن الفنان المصري القديم برع في استعمال الخط داخل مقبرة رخ مي رع، وأنه حرص على أن يكون لكل خط مدلول معين.

واعتبر حاكم في دراسته أن صور جدران المقبرة يتوفر فيها عنصر الإيقاع، وذلك من خلال الحركة والتكرار والثبات في التكوينات المتعددة والمتنوعة المرسومة على الجدران، ولفت إلى التوازن الواضح في ارتباط العناصر الرئيسية بعنصر الكتابة والمناظر الجدارية وكذلك الوضع التقليدي للأفراد، والذي ظهر جلياً في المساحات والفراغات التي توجد بين الأشكال المختلفة.

وتناولت دراسته بالشرح مفهوم الرمز في الفن المصري القديم، كما تناول أهم الرموز التي وجدت بمقبرة الوزير رخ مي رع، ومنها علامات: العنخ، والجد، والمسلة، والأخت -الأفق- ثم رمزية زهرة اللوتس، وشجرة الجميز، والمقصورة أو الناووس، وكذلك رمزية القارب وأنواعه، ورمزية الأرقام والموازين، وأشكال الخبز، والإيماءات والأوضاع البشرية، كما تناولت رمزية اللون وكيف اهتم المصري القديم بالألوان، وكيف كان لكل لون مدلول معين في عقيدة المصري القديم.

يُذكر أن مجموعة مقابر الأشراف التي تقع من بينها مقبرة الوزير رخ مي رع، والتي يصل عددها بحسب المصادر التاريخية إلى أكثر من 400 مقبرة مكتشفة والكثير منها مفتوح للزيارة أمام السياح، تُعد مصدراً مهما لدراسة الحياة الاجتماعية والنظم الإدارية في مصر القديمة، كما تُعتبر مناظر هذه المقابر سجلاً حافلاً بتفاصيل الحياة اليومية للمصري القديم بكل فروعها، وتتفرّد جداريات ونقوش ورسوم تلك المقابر بجمال مناظرها وبهاء ألوانها.

Share this post